انتقل إلى المحتوى

المسار الروحي – في البحث عن الحقيقة

مقدمة

يهدف هذا “المسار الروحي” إلى مساعدة الذين يرغبون باكتشاف الحقيقة والسعادة والسلام الداخلي، سلام الروح، إلى مساعدتك أنت أيها القارىء إن كنت بالفعل ترغب في معرفة الحقيقة.
ينقسم هذا المسار إلى ثلاثة مراحل. المرحلتان الأولتان (التمهيد وإدراك الذات) هما تحضير للمسار الروحي بحصر المعنى. إنهما ليستا ضروريتين، لكننا ننصح بهما حسب حالة كل شخص.

  1. التمهيد هو تحضير نفسي يضعنا على المسار الصحيح نحو الهدف. قبل الانطلاق، عليك أن تعرف بوضوح ماذا تريد بالتحديد، وإن كنت تملك التصميم الكافِ للوصول إلى الحقيقة.
  2. إدراك الذات يدعوك ويحضّرك للدخول إلى ذاتك لتكتشف نفسك وتفهم حالتك النفسية.
  3. المسار الروحي بحد ذاته يضعك أمام ما هو فوق الطبيعة ويفتح أمامك الطريق لتبلغه بحرية… إن كنت متمسكاً به.

المحطة الأولى – التمهيد

إن الحقيقة والسعادة لا تنفصلان: إن كنت في الحقيقة، فلا يمكنك إلا أن تكون سعيداً. إن كنت في قرارة نفسك غير سعيد، فلأنك لا تملك النور الحقيقي الذي يدفىء الروح ويفرحها.
كلما كدّسنا الحقيقة، كلما أصبحنا أكثر سعادة. وحدها معرفة الحقيقة تحرر الإنسان (قراءة يوحنا 8، 32).

قبل أن تلتزم بمسار البحث هذا، تأكد بأنك في حالة نفسية جيدة وبأن وقت الانطلاق قد حان بالنسبة لك. أجب بعناية على هذه الأسئلة الثلاثة:

  1. في أية حالة نفسية أنت؟ ولماذا؟ (سعيد أم حزين، بسبب وضعك المالي، مكانتك الاجتماعية، ثقافتك، أفكارك الفلسفية، وضعك العاطفي إلخ…)
  2. في أية حالة روحية أنت؟ ولماذا؟ (مؤمن أم غير مؤمن، بسبب أفكار موروثة أو انتماء لجماعة دينية منذ ولادتك، بحكم العادة، خضوعك لعادات وأحكام مسبقة لمجتمعك الخاص إلخ…)
  3. هل أنت راضٍ بوضعك أم تريد أن تتطور؟ إن كنت لا تريد أن تسمو بوجودك، فهذا المسار غير موجه لك. لكن إن كنت، بالعكس، عطش لاكتشاف الحقيقة كي تتقدم، فعليك ببذل الجهد في سبيل ذلك. تابع إذاً قراءة هذا المسار.

ملاحظة هامة: إن لم تختار حالتك الروحية شخصياً وبحرية على قاعدة سليمة وموضوعية، وتستخلص أفكارك الخاصة بعناية بعد بحث معمّق ودقيق، ستكون خاضعاً لأحكام دينية مسبقة، عنصرية وغير ذلك، ولن تتمكن من النمو أبداً. سيتقاذفك الجهل وتصبح ضحية سهلة للقلق والاضطراب النفسي، وهما ثمرتان لاإراديتان لمعرفة ناقصة وغير أكيدة، أو لجهل تام. هاتان الثمرتان المشؤومتان أثمرتا حروباً دينية متعصبة ودموية، إضافةً إلى طوائف خبيثة غالباً ما يكون مثالها الأعلى الانتحار…

إن بريق المعرفة يحيي النفس البشرية. أمّا ظلمات الجهل، في المقابل، فتقضي على الحياة الداخلية؛ فلا يمكن للنفس سوى أن تكون منزعجة وغير راضية. سيبدو ذلك على المظهر الخارجي من خلال العدوانية والتململ، أو على العكس أيضاً، من خلال حال من الحزن والكآبة.

إن لم تكن على يقين من معتقداتك، سيتآكلك الشك ولن يمكنك بالتالي أن تحافظ على ثقتك بنفسك. ستترقب دائماً شيئاً جديداً يطمئنك، لكنك لن تلقى سوى خيبة الأمل وسينتهي بك الأمر إلى اليأس من عدم الوصول إلى السعادة الحقيقية أو الاكتفاء بحياة رديئة.
انتبه من هذا النوع من الحنين الكئيب الذي يجتاح الروح في بعض الأحيان، فهو يعيش ويغتذي على الجهل. علينا تعريفه بـ “الحنين إلى السعادة”، السعادة المفقودة… إنما القابلة للاسترجاع وفقاً لشروطها. لقد مُنحنا الوقت لاستعادتها بالمعرفة. ومن جدّ وجد.

التحرر من الحالة

كي تتحرر من تأثير الجهل الضار، عليك أن تبدأ بتحرير نفسك من حالتك، أي التحرر من شخصية فُرضت عليك لاشعورياً من خلال ارتباطاتك العائلية والاجتماعية. إنسى إذاً هويتك العائلية، مركزك الاجتماعي، ألقِ عنك ذكريات (الحلوة والمرة) ماضٍ يؤثّر فيك في أعماق أعماقك، إمحِ الأحكام المسبقة التي تزرع فيك شخصية مزيفة، كي تستعيد ذاتك بنفسك. إبدأ في النهاية بالبحث بعقلانية وبمنطق عن السعادة، ثمرة الحقيقة. أنت قادر على معرفة الحقيقة، على تمييزها، وتحريرها من الكذب.
لديك ذكاء. استعمله.
لديك قلب. أرهف حسّه.
لديك منطق. إستخلص نتائجك الخاصة.

ألهب حماسك باستمرار. زده محبة وفرحاً. لا تسمح للقوى الهدامة أن تشلك بالكسل والخوف من المجهول.

إنهض وقم بخطواتك الأولى في ميدانك الداخلي. إنه ملكك. لا تكن غريباً في داخلك، ولا خائفاً، وإلا سينهب آخرون روحك.

بالإرادة الصلبة والمثابرة، تتوصل إلى قمّة السعادة التي تنتظرك كجائزة كبرى في آخر الدرب، على أعلى قمم جبلك الداخلي.

الشروط الضرورية للوصول

  1. رغبة عميقة بمعرفة الحقيقة: لا يمكن لأحد أن يعطي ماءً لمن لا يكون عطشاً.
  2. الصدق: إلتزام كامل وواعٍ من الإرادة والعقل في سبيل اكتشاف الحقيقة والتكيّف معها بلا نفاق ولا قيد أو شرط. أن تكون حسن النية.
  3. الشجاعة للتخلّي، ولو تدريجياً، عن عادات قديمة، أفكار، صداقات وعلاقات اجتماعية تعيق التطور الروحي وتمنع تحرر الروح.
  4. الانطلاق من مبدأ أن الحقيقة واحدة وموضوعية؛ لا يمكن لمفهوم ونقيضه أن يكونا كلاهما صحيحين. لا يمكن لكل إنسان أن يجعل حقيقته ذاتية: الشمس موجودة أم غير موجودة بالنسبة للجميع. كذلك الله.
  5. حرية الاختيار، مع تحمّل مسؤولية الخيار. أن نكون قادرين على تحمل هذه المسؤولية من خلال حجج وبراهين منطقية، أي أن نكون قد بلغنا نضوجاً جديراً بالثقة.

العقبة الرئيسة هي أن نجعل لأنفسنا “حقيقة” ذاتية وهمية تلائمنا، بدلاً من أن نضع أنفسنا موضع تساؤل، وأن نسعى للارتقاء ومعانقة الحقيقة الوحيدة.

خلاصة

بعد أن فكرت ملياً بهذا التمهيد، هل أنت مستعد للبدء بالبحث منقاداً بهذا الروح، لا بدافع الفضول، بل بتصميم ثابت على التغيير لتصبح ذاتاً أخرى؟ ستخرج مغتنياً وناضجاً لدرجة أنك لن تتعرف على الشخص القديم الذي كنته.
إن قال قلبك “نعم”، فلا تخيب أمله. استجب لندائه. ستكتشف، بالمثابرة، عالم السعادة الذي لم يعد يؤمن به كثير من الناس اليوم، والذي، دون أن يكون من هذا العالم المادي، هو مع ذلك في هذا العالم، كونه موجود فيك. عليك أنت أن تكتشفه. فلا تنشغل بتقلبات الحياة اليومية.

أسطورة هندوسية قديمة تروي ما يلي:
لقد مرّ زمن كان فيه جميع البشر آلهة. لكنهم أساءوا استعمال ألوهيتهم حتى قرر برهما، سيد الآلهة، أن ينزع منهم القدرة الإلهية ويخبئها في مكان حيث يكون من المستحيل عليهم العثور عليها. المعضلة الكبيرة كانت إذاً في إيجاد مخبأ لها.
عندما استدعي الآلهة الصغار إلى مجلس الشورى لحل هذه المسألة، اقترحوا التالي: “لندفن ألوهية الإنسان في الأرض”. لكن برهما أجابهم: “لا، لا يكفي، لأن الإنسان سيحفر ويجدها”.
عندئذ أجابت الآلهة: “في هذه الحالة، لنلقي الألوهية في أعمق المحيطات”. لكن برهما أجاب من جديد: “لا، لأن الإنسان عاجلاً أم آجلاً سيستكشف أعماق جميع المحيطات ومن المؤكد أنه سيجدها في يوم من الأيام ويصعد بها إلى السطح”.

حينها استخلص الآلهة الصغار قائلين: “لا نعرف أين سنخبئها إذ أنه كما يبدو لا يوجد أي مكان على الأرض أو في البحر لا يستطيع الإنسان الوصول إليه يوماً ما”. فقال برهما: “إليكم ما سنفعله بألوهية الإنسان: سنخبئها في أعماق ذاته، لأنه المكان الوحيد الذي لن يفكر أبداً أن يبحث فيه”.

منذ ذلك الوقت، تختم الأسطورة، قام الإنسان بالدوران حول الأرض، استكشف، تسلق، غطس وحفر للبحث عن شيء موجود في داخله.

المحطة الثانية – إدراك الذات

“إدراك الذات” هو برنامج عمل نفسي، مجهود تأمل باطني يساعدك على اكتشاف ذاتك كما أنت، على السعي للتطور نحو ما يجب أن تكون. إنه “مسار نفسي” مكمّل للمسار الروحي. إنني أدعوك إلى اللجوء إليه على طول الطريق، إن رأيت ذلك ضرورياً؛ إنه مقياس لحالتك النفسية.

كان سقراط يقول: “أيها الإنسان، إعرف نفسك”. إنها دعوة لإدراك الذات. إليك باختصار طريقة لإدراك الذات تساعدك على استكشاف عالمك الداخلي.

يتألف الكائن البشري من ثلاثة مستويات حيوية متكاملة:

  1. المستوى الجسدي: المتعلق بالناحية الجسدية، المادية، أي الجسد.
  2. المستوى النفسي: المتعلق بالناحية العقلية والعاطفية، أي النفس.
  3. المستوى الروحي: المتعلق بما هو فوق الطبيعة، أي الروح.

الناحيتان الأخيرتان لا يمكن إدراكهما مادياً، لكنهما متصلتان اتصالاً وثيقاً بالجسد. على المستويات الثلاث أن تكون متناغمة بشكل تام. أي عدم توازن يسبب اضطراباً في الشخصية البشرية.
التركيز على مستوى معيّن وإهمال المستويات الأخرى يقلق الذات. يجب الأخذ بعين الاعتبار الهرمية الموجودة بين هذه المستويات: المستوى الأهم هو الروحي، يليه النفسي وأخيراً الجسدي. هذا القسم الأخير من ذاتنا، أي الجسد، هو من دون شك مهم. إنه القسم المحسوس من ذاتنا والذي يقدر أن يخفي باقي شخصيتنا. كونه الأكثر قرباً وإدراكاً، يمكن للجسد أن يحجب الباقي كما نلاحظ في أغلب الأحيان. بيد أن على الجسد أن يُستخدم كأداة لاكتشاف المستويين الآخرين الغير مرئيين واللذان يملكان أهمية حيوية أكبر بكثير. لذلك علينا أن نحرص على جعل الجسد أداة اكتشاف من خلال الاعتناء به، تعليمه وتوجيهه بحكمة من الداخل حيث يوجد مقر النفس والروح.

العائق الوحيد بالنسبة للإنسان، عدوه الوحيد: هو نفسه.

إدراك الذات يعني معرفة الذات. لذلك علينا أن نثابر على التأمل الباطني لأعماقنا: أن نكتشف نفسنا وروحنا.

إنه سهل وصعب في نفس الوقت:

  • إنه سهل لأنه لا يتطلب وسيلة أخرى سوى ذاتنا، وأدوات أخرى سوى التيقظ وتصميمنا على أن نتغير – مهما كلّف الأمر- لننجح في الوصول إلى الإنسجام الداخلي.
  • إنه صعب بسبب بعض العوائق (الإرادية واللاإرادية) مثل الخمول النفسي، الخوف، أو عدم الاستعداد لاكتشاف أنفسنا على حقيقتها، التعلق بالمادية والملذات الدنيوية. يلزمنا الكثير من الشجاعة المعنوية للاعتراف بأخطائنا والسعي إلى التحرر منها.

طريقة جيدة لبلوغ معرفة الذات هي باعتماد النقاط الثلاث التالية:

  1. تقييم الشخصية
  2. اكتشاف عقدنا النفسية
  3. الهدوء

تقييم الشخصية

إنه تمرين يسمح بتسجيل نقطة انطلاقنا، تقدّمنا أو تراجعنا. يعزز فينا هذا التقييم ديناميكية التطور التي يعتمد عليها تحوّلنا. مفتاح هذا التحوّل هو اكتشاف حالتنا النفسية، حسناتنا وسيئاتنا. إليك بعض الأمثلة على ذلك:

  • الحسنات: الشجاعة الأخلاقية، الرغبة في التقدم، الثقة بالنفس، الصبر، الثبات والمثابرة، اللطف، المحبة، محبة الغير، التآلف مع المجتمع، الفرح، التفاؤل إلخ…
  • السيئات: اللامبالاة، التكبر، الغرور، الشهوانية، الحساسية، الغيرة والحسد، الأنانية، التزمت، التعصب، البخل، عدم الانفتاح إلخ…

إن اكتشاف حالتنا النفسية هو أمر ضروري؛ إنه الخطوة الأولى نحو التطور. عليه يعتمد العلاج الذي سنطبقه. علينا أن لا نرتعب عندما نكتشف سيئاتنا، بل أن ننظر بهدوء إلى هذه الحالة التي انطلاقاً منها نريد ونستطيع أن نتطور، ذلك إن شعرنا أننا معنيون.

الخطوة التالية هي التموضع بالنسبة للحالة المثالية التي علينا أن نبلغها على صعيد المستويات الحيوية الثلاث للشخصية البشرية، هذا ملخص عنها:

  1. المستوى الجسدي يتعلق بالحياة البدنية: الحيوية، الصحة، قوة التحمل، رد فعل جيد إلخ… من الناحية الغذائية، يجب الاعتناء بنوعية وكمية الغذاء لتجنب زيادة الوزن والبدانة اللتان تسببان الأمراض. يجب الاهتمام بالجسد من خلال التمارين الرياضية: العقل السليم في الجسم السليم.
  2. المستوى النفسي يتعلق بالحياة الفكرية والعاطفية للنفس:

    – يحتوي الفكر على مجال الذكاء، قدرة الانتباه والتركيز، الذاكرة، المخيلة إلخ…

    – الحياة العاطفية تتعلق بالمحبة. على محبة الذات ومحبة الآخرين أن تكونا متوازنتين. مخالطة اجتماعية حذرة وانتقائية – وفقاً لصفات الآخرين الأخلاقية – تدعم تطورنا (قراءة يشوع بن سيراخ 12).

  3. المستوى الروحي يتعلق بروحنا ويرتبط بالفوطبيعي. إنه المستوى الذي يتحكّم بكامل شخصيتنا. إن كنا منوّرين بشكل جيد على هذا المستوى، ستفيض السعادة على كامل كياننا. لهذا السبب هذا المستوى هو الأهم على الإطلاق. علينا أن نكتشفه لنعطيه كمال الحقيقة. إنه هدف بحثنا.

بعد أن أدركنا سيئاتنا، علينا أن نطبق على كل واحدة منها الفضيلة النقيضة: على اللامبالاة، الاهتمام والحماس؛ على التكبر، الوداعة والتواضع؛ على الرخاوة، الجهد؛ على الغرور، الزهد ونكران الذات؛ على البخل، الكرم؛ على التعصب، التسامح إلخ… من أجل أن نكون سعداء، علينا أن ندفع الثمن، وكي نشفى علينا أن نتغير. من العبث انتقاد الآخرين، السعي إلى تحسينهم، والرغبة في تغيير العالم دون أن نتطور نحن أنفسنا. الثورات الكبرى تبدأ فينا ومن خلالنا. إذ أنه من خلال تطوير ذاتنا نتمكن من رفع الآخرين.

اكتشاف عقدنا النفسية

كثير من الناس يستسلمون أثناء مسيرتهم بسبب بعض الاضطرابات الداخلية التي تثبط عزيمتهم، والمشاعر التي تزرع الحيرة في الروح. هذه هي العقد النفسية.

بعض وقائع الحياة توسمنا أحياناً منذ طفولتنا. نتيجة لصدمة عاطفية أو غيره، تبقى آثارها مدفونة في ذاكرتنا مولدة بالتالي مشاعر سلبية قوية (دونية، فوقية، عدوانية، شعور بالذنب إلخ…) توجّه بعض أفعالنا من دون علمنا، كونها تقبع في دائرة اللاوعي في نفسنا.

أن نشعر أننا أقل من غيرنا لا يعني دائماً أن قيمتنا الأخلاقية منقوصة. علينا أن نبحث عن أسباب هذا الشعور: عاهة جسدية، نقص عاطفي، مأساة عائلية، نقص في الثقافة، فقر إلخ… كما أنه بالمقابل يمكننا أن نشعر أننا متفوقون من دون أن نكون كذلك. تسبب هذه العقد اضطراباً على مستوى اللاوعي. عملنا يكمن في اكتشاف هذه العقد والتعرّف عليها بغية الشفاء منها. هذا هو “إدراك الذات”. لكن يلزمنا في البدء أن نتحلى بالشجاعة للاعتراف بما نحن عليه! نكون أحياناً بحاجة إلى مساعدة صديقة أو مهنية (عالم نفس إلخ…)، لا نجدها دائماً بسهولة.

علينا أن نتوصل إلى تمييز المصدر الحقيقي للانزعاج الذي يقلقنا: هل يعود ذلك إلى عِقدنا أو إلى معاملة الآخرين السيئة لنا؟ لا يجب التقليل من أهمية تأثير تصرف الآخرين علينا. نظام المجتمعات الحديثة ليس ليناً. لذلك علينا أن نحتمي وأن ندافع عن أنفسنا كي نعيش… أو أحياناً أن نصمد ونتعلم أن نتكيف مع مختلف الأوضاع.
ذلك يستلزم مراقبة موضوعية لتصرفنا نحو الآخرين. نميل، جميعاً، إلى رمي الآخرين بأحاسيس سلبية أو إيجابية موجودة في داخلنا: “نحكم على الآخرين من خلال ذاتنا”، دون أن نتروى ودون أن نتسلح بالتمييز.

مثلاً: الإنسان العدواني يرى الآخرين عدوانيين ويتذمر من ذلك. بالمقابل، الإنسان النزيه يعتقد أن الجميع نزهاء ويتفاجأ عندما يتعرّض للسرقة من قبل إنسان كان يعتبره نزيهاً. ذلك يمكن أن يؤدي إلى خيبات أمل كبيرة، خصوصاً في المجال العاطفي حيث يتعلق الأمر بالقلب.

الهدوء

علينا أن نعمل على ذاتنا بهدوء وصبر كي نتغلب على سيئاتنا، أن نتقبل أنفسنا كما نحن! إن كنا لا نتوصل إلى تقبل أنفسنا، إلى التصالح مع أنفسنا، فكيف علينا أن ننتظر من الآخرين أن يتقبّلوننا وأن يتحمّلوننا؟

ثقافة الهدوء تحمينا من التعديات الخارجية، فنتقدم بالتالي تدريجياً نحو السيطرة على الذات. من يتمكن من السيطرة على ذاته، يتحكم بالمواقف الأكثر حرجاً، يستطيع تهدئة العنف والتحديات، والقيام بالتحولات الأكثر تناسباً للسلام الداخلي والتآلف الاجتماعي.

الهدوء الداخلي يتعزز باسترخاء الجسد والفكر، بالإضافة إلى التحكم بالتنفس الذي يلقّن في صفوف اليوغا.

منافع الهدوء:

  • يسهّل العمل الطبيعي للجهاز العصبي.
  • يزيد من مردود المجهود، وفي نفس الوقت يقلل من التعب.
  • يسيطر على قلة الصبر والميل إلى الغضب.
  • يساعد على التفكير وأخذ أفضل القرارات.
  • يعزز رباطة الجأش والثقة بالنفس.
  • يجذب ثقة الآخرين.
  • إنه سلاح فعال لمواجهة المحن مع حظ أوفر بالانتصار.

نصائح عملية

هذا التقييم البسيط يمكن أن يكتب على دفتر خاص. تجري مراقبة الذات بموضوعية وصدق، ويستعان إن أمكن بمن هو أكثر خبرة.
المثابرة ستغير حياتنا الخاصة، الداخلية، العائلية، العامة والمهنية بكثير من الفرح والمحبة.

هذا الإجراء يضمن نتائج تدريجية لكنها دائماً ما تكون أكيدة وفعالة. نملك الوقت لذلك. علينا أن نتحلى بالصبر وأن لا نستعجل للوصول إلى نتائج مرضية. فإننا بذلك نخاطر بخسارة كل شيء. على النمو الطبيعي أن يأخذ وقته لبلوغ نضوج سليم. فلا يمكن لإنسان أن يبلغ عمر الأربعين دون أن يمر بالثلاثين.

العناية الإلهية ستساعدنا على قدر إيماننا ومثابرتنا.

الإيمان هو ترياق الخوف.
مع الخوف، ننتظرالأسوء؛ مع الإيمان، نأمل بالأفضل.
علينا أن نثق بأنفسنا وبمساعدة الخالق.

تأمل

تأمل بعمق بالأفكار التالية:
قال مايستر ايكهارت (دومينيكاني ألماني من القرن الرابع عشر):

“… ليس خارج الذات، بل في الداخل، كل شيء في الداخل…”

قال عالم النفس كارل يونج:

“يجب مراقبة بصبر ما يجري بصمت داخل النفس، لأن لكل إنسان، بطبيعته، داخل نفسه، شيء يمكن أن ينمو”.

قال يونج أيضاً:

“النفس تملك طبيعياً وظيفة دينية… الدور الرئيسي لكل تربية للإنسان الراشد يكمن في تمرير النموذج المثالي للصورة الإلهية، أو انبعاثاتها وتأثيراتها، إلى الوعي”.

لنتذكر أخيراً قول سقراط: “أيها الإنسان إعرف نفسك”. لكن ذلك لا يكفي إذ أنه لا يمكننا أن نعرف أنفسنا إلا نسبة إلى الحقيقة الواحدة والموضوعية. فيجب القول: “أيها الإنسان إعرف الحقيقة وستعرف نفسك”. في هذا المعنى قال يسوع: “تعرفون الحق والحق يحرركم” (يوحنا 8، 32). لا يمكن للحقيقة أن تحررنا إلا إذا قبلنا بها.

المحطة الثالثة – المسار الروحي

يتألف هذا المسار من أربعة مراحل:

  1. الله: هل هو موجود؟
  2. الديانات: هل جميعها متشابهة؟
  3. الخيار: الكشف الإلهي، الكتاب المقدس (دراسة الكتاب المقدس)
  4. السعادة: أن نحيا في الحقيقة التي اكتشفناها.

سنتطرق إلى هذه المراحل، الواحدة تلو الأخرى، بطريقة منهجية.

لا يوجد الكثير لنقوله عن مرحلة السعادة: إنها نهاية المسار، الخاتمة السعيدة التي تريد أن تصل إليها. هناك ستجد الراحة بعد العناء وسيمكنك التكلم عنها أفضل مني. لن ندرس إذاً سوى المراحل الثلاثة الأولى.

تسلح بالصبر، جيّش انتباهك وقدرة تركيزك كي يكون حصادك وفيراً.

المرحلة الأولى – الله

هل الله موجود؟

السؤال الأول الذي تجب الإجابة عنه هو الذي يتعلق بالله: هل هو موجود أم لا؟ من هنا تتفرع الطريق إلى اثنين: طريق المؤمنين وطريق الملحدين. أقترح عليك أن تجيب بذكاء على عشرة أسئلة كي تقوم شخصياً بهذه الاكتشافات.

قبل التفكير في هذه الأسئلة، من المهم جداً أن تتروى كي تتأكد من أن الجواب هو فعلاً جوابك، وأنه نابع بحرية من بحث ومنطق شخصيين، دون أي تأثير خارجي (ديني، عائلي، أحكام مسبقة، مصالح مادية، إلخ…).

لتتوصل إلى ذلك، عليك أن تكون قد قمت بالمجهود اللازم للتحرر من الحالة الذي كلمتك عنها في التمهيد.

إمنح نفسك الوقت الكافِ للتفكير. لا تتذرع أبداً بضيق الوقت؛ نستطيع دائماً إيجاد الوقت والوسيلة للقيام بما نريد. لقد أُعطينا الوقت لنبحث عن الحقيقة. فلا نضيعنه في مكان آخر (الإفراط في مشاهدة التلفاز، المباريات الرياضية، لعب الورق، شرب الكحول إلخ…). فلنعطِ النشاطات المهمة المرتبة الأولى.

ضع نفسك في جو مناسب للتفكير. وحدك، في مكان هادىء، من الأفضل أن يكون في الطبيعة، تخيل أنك قد ولدت للتو. لا تملك إذاً لا هوية عائلية، ولا اندماج اجتماعي. إنسى اسمك لتكتشف نفسك. ها أنت في هذا السكون، لوحدك، محاط بالأشجار التي تتمايل مع الريح، تسمع حفيف الأوراق وزقزقة العصافير. أنت لوحدك في العالم. تعي بسلام جسدك ونفسك. أنت كائن بكل بساطة.

أجب على الأسئلة العشر التي سأقترحها عليك لاحقاً. خذ كل الوقت اللازم للإجابة عليها بروية. يمكن أن تكون إجابتك جاهزة أو أن يكون عليك أن تنتظر طويلاً قبل أن تجيب على سؤال وتبدد جميع الشكوك المتعلقة به. ما هم الوقت؛ طالما نحسن الاستفادة منه.
من المهم أن لا تأنب نفسك، أن لا تتراجع بعد أن تكون قد اكتشفت الحقيقة في موضوع معين. لا تتخلى أبداً عن نور أبصرته لأجل منفعة مادية أو تحت ضغط الأحكام المسبقة.
سينتقدك البعض، ويحاولوا أن يوهنوا عزيمتك. أمّا أنت، فقاوم! كن ثابتاً ولا تسمع سوى صوت قلبك وعقلك؛ لا تتخلى عن منطقك الخاص. من المهم أن تشعر أنك على يقين بأنك تجيب بحرية، بأنك تستعمل ذكاءك الخاص لكي تصل إلى استنتاجاتك بعد تفكير ناضج، كما يفعل التحري الذكي أمام حالة معقدة.

الأسئلة هي التالية؛ كلف نفسك عناء الإجابة عليها بصدق حتى لو اعتبرتها ساذجة:

هل تؤمن بوجود الله؟ لماذا؟

هذا هو السؤال الأول الذي يرد إلى الذهن؛ منه تنبع نتائج بحثنا.

إبدأ، إن رأيته مناسباً، حتى بعدم استعمال كلمة “الله” و، بلغتك الخاصة، أعطِ اسماً لهذا “الغموض الفوطبيعي”: قوّة، طاقة، كمال، جمال، محبة، حظ، نار، نور…إلخ…
لنحتفظ إذاً، إن شئت، بهذا الاسم لتسهيل الأمور. هل تؤمن بالله؟ نعم أم لا؟ ما هي دوافع إجابتك؟ عليك أن تستخلص بنفسك بذهن استنتاجي وذكي. مثلاً: يدخل شرطي إلى غرفة، ويرى جثة مطروحة على الأرض مضرجة بالدماء والفوضى تعم المكان. ماذا عليه أن يستنتج؟! مثل آخر: تعتقد أنك الوحيد الذي بحوزتك مفتاح غرفتك. تخرج وتقفل الباب بالمفتاح. ثم تعود لتجد ساعة يد موضوعة على طاولتك. ماذا تستنتج؟ هل إنها “صدفة”؟ أم أن أحداً آخر يملك مفتاح غرفتك؟ من المؤكد أن “أحدهم” قد دخل إلى الغرفة. فوحده شرطي غبي لا يرى جريمة قتل في الحالة الأولى ولا يفهم أن “أحداً” آخر يملك مفتاح غرفتك في الحالة الثانية. فبنفس هذا الذكاء الأساسي عليك أن تستنتج بخصوص وجود الله، إنطلاقاً من وجود العالم والكون.

الكون المادي موجود. من أين نشأ؟ يرتكز المؤمنون بأغلبيتهم على الخلق وانسجامه الرائع ليقوموا باستنتاجات توصلهم إلى الخالق. هذا كان على سبيل المثال حال فولتير وأينشتاين عميد العلم الحديث.

قال فولتير:

“لا يمكنني أن أصدق أن الساعة (الخلق) موجودة من دون الساعاتي (الله)”.

ويعبّر أينشتاين قائلاً (مترجم من الإنجليزية):

“الإنفعال الأجمل والأعمق الذي يمكننا أن نختبره هو الإحساس بالغامض (أي بالروحي الغير محسوس). إنه نواة كل علم حقيقي. إن الذي لم يعرف هذا الانفعال، والذي لم يعد قادراً على أن يستولي عليه الذهول، ليس سوى كائن ميت.
أن نعرف أن الذي، بالنسبة لنا، لا يمكن فهمه، هو موجود حقاً متجلياً بوصفه الحكمة الأسمى والجمال الأبهر اللذان لا يمكن لمؤهلاتنا الضعيفة أن تفهمهما سوى بصورهما الأكثر بدائية. هذه المعرفة، هذا الشعور هو في قلب التدين الحقيقي. إن التجربة الدينية الكونية هي المنشط الأقوى والأنبل للبحث العلمي.

تتكون ديانتي من إعجاب متواضع للروح الأعلى اللامتناهي الذي يتجلى في أدق التفاصيل، المدرك من ذكائنا الهش والضعيف. هذه القناعة العميقة المؤثرة بوجود قدرة فكرية متفوقة تنكشف من خلال الكون المبهم، تشكل تصوري عن الله.(“فلسفات حية”، 1931 و “علماء يكلموننا عن الله”، بقلم رينيه كورتوا، دار نشر السيدة، بروكسل).

لقد استشهدت بهذين المثلين – من بين أمثلة كثيرة غيرهما – عن استنتاج علمي ومنطقي كي أساعدك على أن تستنتج بنفسك بذكاء الباعث الحقيقي للكون. تأمل بهما جيداً.

الملحدون، من جهتهم، يرتكزون، من بين جملة أمور، على وجود الشر في العالم لاستنتاج عدم وجود الله. هذه حجة باطلة وغير مقبولة، لأن الشر ليس كياناً بحد ذاته؛ لا يمكن فهمه إلا نسبة إلى الخير: الشر هو خير فاسد، منقوص (جريمة، سرقة، مرض جسدي أو نفسي، إلخ…). كذلك، لا يمكننا أن نميز الكراهية إلاّ لأننا نعرف المحبة، ولا أن نشخّص المرض إلا نسبة للصحة الجيدة. ستكتشف لاحقاً أنه لا يمكن للشر أن ينبع من الله الذي هو الخير المطلق. ستدرك أيضاً أن الشر قد أُدخل إلى العالم بواسطة الإنسان نفسه.

يزعم آخرون أن الفوضى الاجتماعية، الحروب الدينية والنظريات عن التطور هي أيضاً براهين عن عدم وجود الله، والحال هو أن هذه الفوضى وهذه الحروب تعود إلى سوء الإدارة وانعدام الإيمان عند البشر، وليس إلى عدم وجود الله. أما بالنسبة إلى التطور، فإنه لن يكشف تنظيماً معيّناً للخلق فحسب، بل المبرمج لهذا التطور: الله. من جهة أخرى، لا يوجد إثبات منطقي على عدم وجود الله.

سؤال: هل يمكن لساعة، لسيارة، لوجبة طعام، أن تصنعها الصدفة؟ كذلك، هل يمكن لخلق منظّم ودقيق أن يكون نتيجة الصدفة؟ لك أنت أن تجيب على ذلك بذكاء! ماذا يمكن أن تكون إذاً هذه الصدفة؟ من أين تأتي؟ فلنسمي الله إذاً “صدفة”…

إن كنت حتى هذه المرحلة تعتقد بأن الله غير موجود، فلم يعد بإمكاننا إذاً أن نساعدك في بحثك. هنا تفترق طرقنا الروحية، لكن على أخوّتنا الإنسانية أن تستمر لنبني معاً بانسجام مجتمعنا ومدينتنا الأرضية، راضين باختلافنا، لكن متسمين باحترام متبادل كل منا لمعتقدات الآخر الخاصة.

أما إن كنت، على العكس، قد استخلصت أن الله موجود، فسنستطيع مواصلة بحثنا سوياً لنتعرف عليه بشكل أفضل، مقتنعين نحن أيضاً بوجوده. ننتقل إذاً إلى السؤال الثاني.

هل هو شخصي أم غير شخصي؟

يكون شخصياً كل كائن ذكي، واعٍ ومسؤول؛ الإنسان على سبيل المثال. بالمقابل، المادة، الحيوانات، والنباتات ليست شخصية. لدى الحيوانات موهبة الغريزة لكنها لا ترتقي إلى الذكاء. النحل مثلاً، يبني قفيره بشكل سداسي، ليس بسبب ذكائه، بل مدفوعاً بغريزته. إنه، إن جاز التعبير، “مبرمج” ولا يمكنه أن يعمل بشكل مختلف، ولا أن “يتفوق” على نفسه ليقوم بعمل أفضل. هذا ما سيكون عليه الأمر دائماً بالنسبة له. فهو غير قادر على اختراع آلة لجمع رحيق الأزهار في مكانها. من ناحية أخرى، لا نضع كلباً في السجن لأنه عض رجلاً، إذ لا يمكن اعتبار الحيوان مسؤولاً عن تصرفاته لأنه ليس إنساناً. كما أنه من غير الممكن أيضاً لمجموعة من الحمير أن تتنظم في مظاهرة عامة للمطالبة بحقها بتحديد حمولتها القصوى وعدد ساعات العمل! هذا النوع من النشاط هو بديل للذكاء.

الإيمان بإله شخصي يعني الإيمان بأنه الذكاء، المعرفة، المحبة، الوعي والمسؤولية بالمطلق. (مراجعة نص أينشتاين الآنف الذكر).

هل هو حي أم جامد؟

هل تعتقد أن الله حي، ناشط ومنتج، أم أنه جامد ومحدود مثل النوترون والبروتون، دون أي نشاط عقلي وعاطفي.

الكائن الحي هو الكائن الناشط والمنتج. نؤمن بأن لله قوة حياة لامتناهية، معرفة تامة، ذكاء ومحبة كاملين. إنه يعرف ويحب بصورة مطلقة كيانه وخليقته التي خلقها انطلاقاً من محبته المطلقة.

هل هو مادة أم روح؟

المادة هي شيء محسوس. يمكن اكتشافها بآلات دقيقة جداً. في الماضي، عبد البشر الشمس، القمر والأوثان، اعتقاداً منهم أن الله مادة. نؤمن بأن الله هو “الروح الأعلى اللامتناهي” (أينشتاين). هذا الروح لا يمكن إدراكه إلا من خلال روح الإنسان، في خصوصية وعيه المتنور بالعقل وحب الحقيقة.

هل هناك علاقة مباشرة بينه وبيننا؟

نؤمن بأن هذه العلاقة موجودة بين الخالق وخليقته؛ إنها علاقة العلّة (الله) بالمعلول (نحن خليقته).

هل هذه العلاقة ثابتة فيك، أم مقطوعة؟ حدسك سيجيبك.

إن كانت هذه العلاقة مقطوعة، هل تود أن تحييها؟

هل يمكننا أن ندخل في اتصال معه؟ كيف؟

هذا الاتصال ممكن ولا يمكن إلا أن يكون روحياً كونه اتصال بين الأرواح. لقد رأيت في “إدراك الذات” أن الإنسان هو جسد، نفس، وروح.

البعض يدعو هذا الاتصال “صلاة”؛ إنه “حوار” بسيط مع الله. يجب التحرر من الشعائر والمظاهر الخائفة التي فرضها بعض رؤساء الدين. فهذه العبادات مستوحاة من الوثنية. إن الله هو أب حنون يرغب بالتحادث مع أبنائه بلا كلفة، إنما باحترام.

إن لم ترغب بحرارة أن تستعيد الصلة مع الله، فلن يكون لك ذلك.

هل يمكنه مساعدتك في بحثك؟

إن كنت تؤمن أنه حكيم وعلي قدير قادر على كل شيء، ستستنتج أنه قادر، لا بل أنه راغب بمساعدتك بتنويرك، لأنه يحب خليقته: بل إنه يذوب حبّاً بك.

هل أنت مستعد لطلب مساعدته؟

يفضل البعض أن يبحثوا عن الله بمفردهم، دون مساعدة الله.

نحن مقتنعون، فيما يتعلق بنا، أن لا أحد يستطيع اكتشاف وفهم الله من تلقاء نفسه؟ العلم البشري يتخطانا، نلجأ إلى معاهد علمية مختلفة ومعلمين كي نفهم جزءاً ضئيلاً من الخلق؛ فكيف بالأحرى عندما يتعلق الأمر بفهم الخالق. علينا أن نكون متواضعين كي نلجأ إلى الله ونعرفه، إذ أنه هو، وهو وحده، يستطيع أن يظهر نفسه إلى من يحبه. غالباً ما نجد صعوبة في فهم الناس. فإن لم يكشف الله لنا عن ذاته، لن نستطيع لا أن نعرفه ولا أن نفهمه.
اتصل به بقلبك، من كل قلبك، وقل له: “ساعدني، أرجوك، كي أعرفك، كي أحبك”. ستكتشف أن الله حساس على المحبة، على الحنان والتواضع، كما هم كثيرون.

هل هو صامت، خفي ولا يمكن إدراكه، أم أنه يكشف عن ذاته؟

لا يعبّر الله عن نفسه فقط في ذاته، بل أيضاً للذين يبحثون عنه. لايمكنه أن يكون غير مبالٍ بالإنسان الذي خلقه. نحن مقتنعون أن الله يتوق إلى الاتصال بالإنسان ويرغب بحرارة أن يستعيد الصلة التي قطعها هذا الأخير على مر التاريخ. كونه إله شخصي، ذكي ومحب إذاً، فإنه يكشف عن ذاته للذين يبحثون عنه بشغف ويرغبون بالاتصال به.

هل كشف الله عن ذاته خلال التاريخ البشري؟

هذا ما يهمنا. نريد أن نعرف إن كشف الله عن نفسه للبشر. من بين المسارات الروحية المتعددة التي تبرز أمامنا، نريد أن ننطلق في مسار الوحي الإلهي، حيث كشف الله نفسه عن ذاته للبشر.

لولا هذا الوحي لما كنا فهمنا شخصية الله الحقيقية، ولا كيف يتصرف مع البشر. إن الأنبياء هم من كشفوا لنا أن الله “طيب ورحوم” ويسكن قلوب المؤمنين، خلافاً لآلهة الميثولوجيات المختلفة، المستبدة، السطحية، البعيدة والغامضة، ذات المتطلبات الغير إنسانية، التي كانت تُقدم إليها ذبائح الحيوانات والبشر والأطفال.

إلى هنا تنتهي المرحلة الأولى من هذا المسار. نخرج منها مؤمنين بإله شخصي كاشف. نجد أنفسنا في هذه المرحلة على مفترق طرق ديانات متعددة تتجلى أمامنا في العالم. أيها نختار؟ علينا في البدء أن نتعرف عليها. لننتقل إذاً إلى المرحلة الثانية: “الديانات”.

المرحلة الثانية – الديانات

بعد أن اجتزنا مرحلة وجود الله، سننتقل إلى مرحلة الديانات.
يوجد في العالم مسارات دينية عديدة. كي نتمكن من اختيار واحدة منها علينا أن نتعرف عليها. إنها تنقسم إلى مجموعتين: الديانات الفلسفية وديانات الوحي.

“الديانات” الفلسفية

في الحقيقة إنها ليست ديانات، بل تلمسات شخصية، أبحاث بشرية سعياًً إلى سلام النفس. تعود لمؤسسين ذوي نفوس نبيلة، مثل كريشنا، كونفوشيوس، وبوذا، الذين حرّكتهم رغبة شديدة بتطهير النفس بالتجرد عن المادة. لقد أسسوا علم أخلاق محترم من البشر، ينبذ الفائض المادي. الطقوس التطهيرية (العماد، الوضوء، التبخير، الترتيل، إلخ…) يفترض منها الارتقاء بالنفس إلى مجالات هادئة.

بعض الممارسات تقود إلى التفكير والتأمل. قواعد فيزيائية تضبط اضطراب الجسد، خصوصاً التنفس. هذه الممارسات، الموجودة في اليوغا، ممتازة ويمكن مزاولتها من دون تبنّي معتقداتها مثل التقمص، عبادة بعض الحيوانات التي تُعتبر مقدسة (البقرة البيضاء، القردة إلخ…). هذه التعاليم هي فرضيات بشرية. لا يوجد في هذه التيارات الفلسفية أي وحي أو إرشاد إالهيين، كما أنها لا تأتي حتى على ذكر الله الواحد، ولا صفاته (طيب، رحوم، عادل، إلخ…)، ولا على مخطط إلهي لخلاص الإنسان كما في أديان الوحي. توجد كتابات أدبية وافرة عن هذا الموضوع. أقدم هنا باختصار التيارات الفلسفية الأكثر أهمية.

البوذية

أسسها غوتاما في القرن السادس ق.م على سفوح جبال الهيمالايا في الهند. في سن الـ 28، ترك غوتاما زوجته وأولاده بحثاً عن الحقيقة. تردد على العديد من مدارس الحكمة دون أن يتوصل إلى العثور على الحقيقة التي كان يشعر بها في داخله. بعد أن هام على وجهه لسنوات، جلس في يوم من الأيام تحت شجرة تين يتأمل، فشعر بالابتهاج والنشوة وغمرته المعرفة، وعرف ماذا عليه أن يفعل. في ذلك اليوم، غوتاما أصبح “بوذا”، أي “المتنور” أو “الحكيم”، الذي تنبّه. فهم أن عليه أن لا يتعلق بالمادة، ولا بالمتعة الدنيوية. بسرعة البرق، أدرك تفاهة الانشغالات المحض مادية. فأراد أن ينقل هذه “المعرفة”، هذا “النور” (“البوذية”) إلى الآخرين.

باختصار، إن عالم الإحاسيس بالنسبة لبوذا هو عالم وهمي. وحدها رغبتنا يمكنها أن تربطنا به… وأن تضيعنا. من هذا التعلق بالعالم الأرضي تنشأ المعاناة. التقمص هو عقاب يهدف إلى تطهيرنا وتعليمنا كيف نتحرر من جاذبية المادة. لكن دائرة التقمص يمكنها أن تتقاطع من خلال التجرد، التخلي عن الرغبة. بتخلينا عن الرغبة، ندرك عندئذ وهم وتفاهة الحسي: فنصبح متنورين. هكذا نستطيع أن نبلغ “النيرفانا”، التي تمثل راحة الضمير المتحرر من قيود المتعة الجسدية.

لم يميز بوذا بين الملذات الجسدية المشروعة والملذات الغير مشروعة الضارة التي، كونها شاذة وغير متوازنة، تعيق حياة النفس وتمنع المباهج الروحية. علاوة على ذلك، لم يكن بوذا يتصور هذه الملذات الروحية التي تتمثل بعظمة فرح اكتشاف الحقيقة وعيشها. تنحصر نيرفانا بوذا بالحصول على نفس غير قلقة، على ضمير مرتاح. بينما لو كان على المرء أن يتخلى عن الرغبة بالتفاهات والأباطيل، فعليه بالمقابل أن يحيي الرغبة بما هو جيد وأن يتوق، بحماس، إلى اكتشاف كل ما يمكنه أن يسمو بالنفس. هذا الشعور، أي الرغبة، هو محرك جبار؛ يشكل جزءاً من الطبيعة البشرية ولا يجب كبته. دون هذه الرغبة المتحمسة لاكتشاف الحياة الحقيقية، لا نستطيع أن ننمو ولا أن نقوم بأي عمل صالح؛ الحياة الأرضية ستكون بل طعم وتصبح هراءً لا يحتمل.

إنها أكثر من فلسفة، البوذية هي نظام أخلاقي، طريقة صحيحة للحياة تشمل ثمانية توجيهات: أفكار مستقيمة، نوايا مستقيمة، كلمة مستقيمة، فعل مستقيم، حياة مستقيمة، مجهود مستقيم، إنتباه مستقيم وتأمل مستقيم. يشكل ذلك بالنسبة للبوذي “الممر النبيل للخلاص”. لم يدّعي بوذا يوماًً أن تعليمه يأتي من الله.

يعلمنا الوحي الإلهي أنه من خلال المحبة الحقيقية والمطلقة لله وللغير، نصل إلى قمم أعلى من النيرفانا. يمكن لهذه الأخيرة أن ترضي حياة الإنسان النفسية، أي نفسه، لكن الوحي الإلهي يتخطى هذا المستوى ليبلغ الروح. هنا تكمن قوتنا الحيوية، القمة الأعلى والأكثر تأثيراً لكياننا.

الهندوسية

سبقت الهندوسية البوذية بقرنين تقريباً. كان بوذا هندوسياً في البدء، لكنه، لعدم اقتناعه بهذا التيار، أخذ يبحث في مكان آخر بعد أن كان قد تردد على مدارس هندوسية عديدة. فقرر، بعد أن “تنوّر”، أن يشق طريقه لوحده في مجال البحث الروحي.
الهندوسية هي نظام عقائدي يصعب تحديده؛ لا يوجد فيه لائحة معتقدات مشتركة لجميع أعضائه، لا نظام فلسفي واحد، لا هرمية، لا نظير للكتب المقدسة (الكتاب المقدس، القرآن)، ولا عبادة موحدة، كونه مقسوم إلى عدة طبقات (شبيهة بالمذاهب المتعددة عند المسيحيين والمسلمين). لكل مجموعة شعائرها، وكل هندوسي يخضع لطقوس مجموعته، تبعاً لقواعد سلوك وعبادة أنشئت خصيصاً له، خصوصاً فيما يتعلق بالطعام (الذي غالباً ما يكون نباتياً)، بالزواج، وبعبادة الآلهة.

تعطي الهندوسية للفرد حرية شبه مطلقة في نطاق البحث والتأمل، لكنها في نفس الوقت تفرض عليه قواعد سلوك صارمة جداً. هكذا، يمكن للمؤمن والكافر، للمتشكك والملحد، أن يكونوا هندوسيين صالحين من اللحظة الأولى التي يعترفون فيها بالنمط الهندوسي للثقافة والوجود. ما يهم ليس الاعتقاد بمذهب، أو الإيمان، إنما السلوك. كان غاندي (الذي كان يؤمن بالله) يقول: “يمكن للإنسان أن لا يؤمن بالله وأن يعتبر نفسه مع ذلك هندوسياً: الهندوسية تقوم على السعي المستمر إلى الحقيقة، والحقيقة (يشدد غاندي) هي الله”.

تختلف النظريات على جوهر الألوهية: بعض الهندوسيين يؤمن بعدة آلهة، والبعض الآخر يؤمن بالكون وخالقه. نظرية التقمص تُعلّم بصورة عامة (عودة النفس بعد الموت في النبات، الحيوانات أو في أجساد بشرية، وفقاً لمستوى تطهرها). لم يكن بوذا يعلّم سوى التجسد (العودة في جسد بشري). إنه بالفعل تطور على الهندوسية، لأنه وحده الجسد البشري جدير بالنفس البشرية.

تملك الهندوسية فكرة غامضة عن روح مطلق، عديم الجنس (لا مذكر ولا مؤنث)، أبدي، المسبب الأصلي ومصدر كل ما هو موجود، ونهاية يرجع إليها كل شيء. يتجلى هذا الروح من خلال “ثلاثية” أو ثالوث آلهة، “التريمورتي”: براهما (الخالق)، فيشنو (الأمين) وشيفا (المدمر الذي، بتدميره عالماً قديماً، يخلق في نفس الوقت الحياة الجديدة). بالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعة آلهة ثانويين، شياطين، أرواح، وأشياء مقدسة يعبدها الهندوس. تعتبر البقرة حيواناً مقدساً. بالإضافة إلى بعض القطعان التي تعطي الحليب والزبدة، يوجد عدد لا بأس به من الحيوانات المعاقة، التي لا يملكها أحد، التائهة في المدن والقرى وتقتات على ما يقدمه لها المؤمنون. يحرّم القانون قتلها، حتى ولو كان ذلك اختصاراً لعذابها. خلال المجاعات، رأينا هندوسيين يحرمون أنفسهم من حصصهم الضئيلة ليقدموها للأبقار. القردة هي أيضاً حيوانات مقدسة، يتحمل الهندوسيون بصبر أعمالها التخريبية.

الكنفوشيوسية

وُلد كنفوشيوس في الصين في القرن السادس ق.م. كان سياسياً ولم يكن يدعي أنه إصلاحي ديني، كونه لم يكن في الحقيقة مهتماً بمسائل الحياة الدينية. يشكل تعليمه أخلاقية رفيعة سياسية عسكرية (حسن التصرف مع الأعداء إلخ…) كان يؤمن بالسماء، لكنه كان يرفض إبداء رأيه بالحياة ما بعد الموت: “بما أنه لا يمكنكم فهم الحياة، فكيف يمكنكم فهم الموت؟”، كان يقول. لم يكن يعلم شيئاً عن الأرواح، فكان يقول: “إن كنا لا نستطيع أن نتعامل مع الإنسان، فكيف نستطيع إذاً أن نتعامل مع الأرواح؟”. بالمقابل، كان يقدم الأضاحي لأسلافه “كما لو أنهم كانوا موجودين جسدياً”.

كان تعليم كنفوشيوس يهدف إلى تكوين “إنسان متفوق”، أناس مثقفين يتبعون “الطريق المعتدل” ويرشدون الآخرين في هذا الطريق، طريق الاعتدال في كل شيء.

عاش كنفوشيوس في بيئة متعددة الآلهة، لكنه علّم بأنه لا يوجد سوى مولى سامي واحد صعب الإدراك، يجعل الناس يشعرون بوجوده ويقرر مصير الذين يستنجدون به، متجاوزين المعتقدات المعترف بها. بالمقابل، يعلّمنا الوحي الإلهي أنه يمكننا بلوغ الله الذي يرغب بأن نتصل به. الاحترام الذي يكنه كنفوشيوس للخالق أوصله إلى روح تسامح مبني على وعي شديد بالتباعد الكبير بين ما يعتقد الإنسان أنه يعرفه عن الله وعن نفسه، وبين ما يجهله عنهما. لم يدعي كنفوشيوس يوماً أن تعاليمه هي بوحي من الله.

في الصين، تصدت الشيوعية للكنفوشيوسية باعتبارها مبالغة الاعتدال والتسامح، وأيضاً بسبب شعائر الأسلاف.
إضافة إلى ذلك، هناك أيضاً عدد لا يحصى من “الديانات” في أفريقيا وأميركا الجنوبية، معتقدات وثنية ومشعوذة. ما أتيت على ذكره كمثل عن التيارات الروحية الكبيرة، يكفي للتمييز بين البحث الإنساني والوحي الإلهي. باختصار، إن جميع هذه العبارات الدينية هي محاولات لفهم الله، صرخة بشرية لاإرادية إنما ملحة موجهة إلى الله: “أين أنت؟ من أنت؟”. يجيب الله بالكشف عن ذاته في الكتابات المقدسة: “ها أنذا !”.

ديانات الوحي

في ديانات الوحي يجيب الله بنفسه على الذين يبحثون عنه. من خلال هذا الوحي يكشف الله عن ذاته كي يُعرف كما هو. هذه المعرفة للخالق ترفع الإنسان إلى مكانته الخاصة، ثم إلى الله الذي فيه يوجد كمال الحقيقة، السعادة والسلام.
من بين جميع المسارات الروحية التي تُطرح أمامنا، أيها نختار؟ نختار، بالتأكيد، تلك التي يتجلى فيها الله.

تُطرح أمامنا ثلاثة ديانات وحي: اليهودية، المسيحية، والإسلام. هذه الديانات الثلاث ليست في الواقع سوى ديانة واحدة، تكمّل بعضها بشخص المسيح، يسوع، الذي أرسله الله ليوحد البشر الصالحين من جميع الأعراق، الألوان، والأمم. الانقسامات بين المؤمنين تعود إلى التعصب والجهل والمصالح البشرية.

اليهودية

منذ 4000 سنة، تدخل الرب مباشرة للمرة الأولى في العالم متجلياً لإبراهيم، السوري. من خلاله، كوّن الله طائفة بشرية ليعرّف عن ذاته ويهيّء لمجيء المسيح، مخلص جميع البشر. أطلقت هذه الطائفة على نفسها إسم “اليهود”. ديانتهم هي اليهودية. كتبوا تاريخهم وتعاليمهم في الكتاب المقدس. اليهود المعاصرون لا يزالون ينتظرون هذا المسيح، لاعتقادهم أنه سيجدد عرش داود السياسي ويعيد بناء هيكل سليمان. كونهم لم يفهموا مخطط الله الهادف إلى الخلاص الروحي للبشر، رفضوا مسيحية يسوع العالمية.

المسيحية

يؤمن المسيحيون بالتجلي الإلهي لابراهيم. بدأت المسيحية منذ ألفي سنة مع يسوع الناصري، الذي يعترف به المسيحيون كمسيح عالمي. المسيحيون الأولون كانوا من اليهود الذين آمنوا أن يسوع هو المسيح المنتظر، وحملوا هذا التعليم إلى زوايا الأرض الأربعة. من بين سير حياة عديدة ليسوع، تم الإبقاء على أربعة منها واعتبارها وحياً إلهياً: وهي الأناجيل الأربعة. كتب المهتدون الأوائل، رسل يسوع، عدة رسائل احتفظت بها الأجيال اللاحقة بعناية كبيرة. هذه الرسائل، بالإضافة إلى السير الأربعة للمؤسس، تسمى العهد الجديد أو “الإنجيل”؛ تمت إضافتها إلى الكتاب المقدس اليهودي واعتُبرت من قبل المسيحيين كجزء مكمل للكتاب المقدس.
على مر التاريخ، انقسم المسيحيون، تارةً بسبب ظروف بشرية، وطوراً بسبب خلافات على المستوى الروحي. ما أدى إلى ولادة ثلاثة كنائس مسيحية كبيرة: الكنيسة الكاثوليكية، الأرثوذوكسية، والبروتستانتية.

الإسلام

في القرن السابع ب.م، ظهر محمد، نبي شبه الجزيرة العربية، وكشف للعرب الوثنيين في المنطقة عن الله الواحد الذي تجلى لابراهيم والذي أرسل المسيح، عيسى (يسوع) بن مريم، وأن يسوع هو حقا المسيح. قال محمد إنه جاء مصدّقاً على وحدة الرسالة الكتابية، وأدان اليهود لرفضهم الإيمان بيسوع. القرآن هو كتاب الإسلام.

هكذا، فإن ديانات الوحي “الثلاث” تتوافق على أن الله قد كشف عن نفسه للبشر من خلال إبراهيم. سندرس إذاً هذا الكشف عن كثب، مبتدئين وفقاً للتسلسل الزمني بالكتاب المقدس. سنعرض كتب العهد القديم، ثم كتب العهد الجديد. في النهاية، سيكون عليك قراءة كتاب “نظرة إيمان بالقرآن الكريم” الذي سيحضّرك لقراءة القرآن.

تأمل

كتب الوحي

يُبرز هذا المسار الروحي أسباب إيماننا المبنية على الوحي الإلهي. ننبذ أي شعور طائفي ومتعصب، لأنه يعارض تعاليم هذا الوحي.
أنت الذي تدعي أنك يهودي، مسيحي، مسلم، بوذي أو هندوسي إلخ…، لو لم تكن قد وُلدت على هذا الدرب، أكنت اخترته؟ ولماذا؟ وفقاً لجوابك ستعرف إن كنت قد تمكنت من التحرر من الحالة. هذا التحرر والتخلص من الإرث الإجتماعي هو ضروري قبل الشروع بدراسة كتب الوحي. فالإيمان لا ينتقل بالوراثة، بل بالخيار الشخصي المتنور بالمعرفة. إن كنت تشعر أنك متحرر من كل تعصب، وتعتبر جميع البشر سواسية ومدعوين لاكتشاف الحقيقة، يمكنك المتابعة بروح منفتح على البحث الموضوعي عن الحقيقة. أدعوك إذاً إلى السير قدماً في دراسة تفسير الكتاب المقدس.

الملحدون والإيمان بالله

يعتقد بعض “الملحدين” أنهم لا يملكون الإيمان. يعود ذلك إلى تقديم بعض “المؤمنين” صورة مشوهة وخاطئة عن الله. فنرى أن كثيراً من المؤمنين المزعومين، حتى من بين رجال الدين من مختلف الأديان، لا يعكسون الروح الحقيقي لله. نعتقد أن كل إنسان متعطش للحقيقة سينتهي به الأمر إلى اكتشاف الوجه الحقيقي لله، بعد بذل الجهد الضروري للتحرر من الحالة التي كنا قد تكلمنا عنها في المحطة الأولى من هذا “المسار الروحي”. لذلك:

إن كنت فعلاًتحب الله، سينتهي بك المطاف حتماً إلى الإيمان به. لكن إن كنت لا تحبه، ستجد ألف عذر وعذر كي ترفضه، مقنّعاً كراهيتك بعدم الإيمان.
في النهاية، كل المسألة هي مسألة محبة:
أن تحب أو لا تحب! هذا هو السؤال الأول…
إن كنت تحب الله، ستجده لا محال!
لأنه عندئذٍ سيأتي هو بنفسه إليك.
ومن يجد الله، يجد السعادة!
لأن فيه يوجد كمال الحقيقة، والراحة والفرح.

مسألة الشر – لماذا الشر موجود في العالم؟

الله الصالح، لماذا “خلق” الشر؟

هذه أسئلة نسمعها غالباً.
للإجابة عنها علينا أن نفكر ملياً وأن نستعين بالمنطق، بدءاً، على سبيل المثال، من الاقتناع بأن الله الصالح لا يمكن أن يكون قد خلق الشر؛ لأن كل شجرة لا يمكنها أن تعطي إلا ثمرها.

من أين يأتي الشر إذاً؟

علينا أن نتأمل جيداً بها الموضوع. إن الشر ليس كياناً بحد ذاته، بل خير مبتور، نقيصة: المرض هو نقص في الصحة، العمى هو فقدان للبصر، السرقة هي نزع الملكية، القتل هو تجريد من الحياة، الكذب هو تشويه للحقيقة، الظلم هو نقصان في العدل، الملذات الجسدية الشاذة هي انحراف للطاقة البشرية. جميع هذه النقائص تمنع الإنسان من التطور روحياً. بتحديدنا الشر بهذه الطريقة، يصبح من الواضح أنه لا يمكن لله أن يسر “بخلقه”، ولا أن يرضى برؤية خلائقه تتعذب. ليس له في هذا أية فائدة. كل إنسان منطقي وغير منحاز لا بد له من أن يلاحظ ذلك.

بالمقابل، لقد أعطى الله معنى للخلق؛ يوجد هناك توجه، مسار يجب اتباعه في الحياة؛ علينا أن لا نسير في الاتجاه المعاكس، أن لا نقود بسرعة وفي حالة سكر إلخ، لئلاً نؤذي أنفسنا والآخرين. غير أن الكثيرين يرفضون الالتزام بالطريق التي رسمها الله آثرين أن يفعلوا مشيئتهم. هنا منبع الشر في العالم. نسير بسرعة 200 كلم في الساعة في حالة سكر، نتسبب بحوادث وقتلى ومن ثمّ… نلقي باللوم على الله!!!

إن الإنسان إذاً هو الذي أقحم فيه مرارة الشر. ولا يكف عن سقي هذه النبتة الشريرة بالأنانية والغرور وحب السلطة والسيطرة. إن شهوات الإنسان هي أصل الحروب والصراع بين الإخوة. الإنسان يقتل أخيه الإنسان كي يسلبه ويخضعه لشروطه. وهذا، خلافاً لوصايا الله الخالق. غلطة من هي إذاً ؟!

إن الكشف الإلهي، من خلال الرواية الرمزية لسقوط آدم وحواء، هو الذي يعلمنا عن مصدر الشر في العالم. لقد اختار الرجل والمرأة أن يصدقا النصائح الشريرة التي أوحى بها الشيطان إليهما بدلاً من الوثوق بالتعليمات الإلهية للوصول إلى كمال الحياة. فأدخلا بذلك التفكير الشيطاني في حدس الإنسان. هذه كانت الخطيئة الأولى، القطيعة بين الله وخليقته. بعد أن دخل عدم التوازن بين الإنسان والله، تابع “قايين” عمل الشر بقتله أخيه “هابيل” وأدخل الشر بين الإنسان وأخيه الإنسان. إن المذنب ليس الله بالتأكيد الذي كان قد نبّه الإنسان.

تتجلى طيبة الله نحو الإنسان الخاطىء من خلال نعمة الغفران. يُرمز إلى هذه النعمة “بالثياب الجلدية” التي أعطاها الله لآدم وحواء ليخبئا عارهما. إن الله في الواقع يمد يده لجميع البشر لينتشلهم من بؤسهم. لكن لا يمكنه أن يرغم يد الإنسان الذي هو حر، ولا أن يجبره على فعل الخير، ولا أن يمنعه بالقوة من ارتكاب الشر. كما أن الله لا يمكنه أيضاً أن يرغم الإنسان على استيعاب النعمة الإلهية، والاستفادة من النجدة الإلهية ليخلص نفسه. الله يمد يده، علينا نحن أن نتمسك بها.

الله يلح في الطلب؛ يعرض نفسه، لكنه لا يفرضها أبداً.

هكذا، لا يمكن للإنسان أن يكون مجبراً لا على فعل الخير، ولا على تجنب ارتكاب الشر. وذلك لسببين:

  1. طبيعة الخالق: الله ليس دكتاتوراً. إنه ينصح مخلوقاته، لكنه لا يرغمها على فعل الخير. هو نفسه حر، وقد خلق الأرواح والبشر على صورته: أحرار.
  2. الطبيعة البشرية: الإنسان ليس عبداً أو حيواناً ما، كلب نربطه أو نكممه كي لا يعض. إنه حر وجدير بالاحترام، عليه أن يستغل قدراته العاطفية والفكرية لمصلحته الخاصة وللمصلحة العامة. ليرتكب الشر، على الإنسان أن يكون قد فقد قلبه وعقله. وهذه أسوأ العاهات، لأنها مصدر كل الشر.

    لكان يحق لنا أن نلوم الخالق لو أنه خلق منذ البدء في العاهة والنقص. والحال هو أن الإنسان في البدء، في بعده البشري، كان بدون عيب، إنما قابل للتطور نحو الله. إنه الكبرياء البشري الذي رفض كل إمكانية للتعاون، كل توافق مع خلق الرب. من حيث عدم التوازن ومصدر كل شر على الأرض.

    الإنسان هو الذي يرتكب بحرية أعمالاً يحذره منها خالقه، الذي بدوره هو أب لا يضمر أي سوء لأبنائه. ما مصلحته في أن يرى خلائقه تتوجع وتحزن؟ لو فكرنا ملياً، لوجدنا أنه لا يملك شيئاً من السادية. بل على العكس، إنه لا يتوقف عن تقديم النصائح الأبوية ليجنبنا الممارسات والمواقف التي تضر بالجسد والنفس (المخدرات، الملذات الوهمية، الظلم، الأنانية، الغرور إلخ).

لماذا خلق الله كل شيء؟

الحياة، الحقيقية، التي كونتها عبقرية الخالق، جميلة. وقد أراد أن نتشاركها معه. إنها إذاً بادرة غيرية وطيبة هي التي شكلت أساس قاعدة الخلق. قليل من الناس يتكبدون عناء البحث في العمق، الاعتراف بهفواتهم التي هي السبب الرئيسي لبؤسهم، وتخطّي آرائهم المسبقة المؤذية. يربحون الكثير، لا بل يربحون كل شيء، بتخطيهم لذاتهم. سيجدون أنفسهم، محررين من المفاهيم الخاطئة ببادرة تواضع وموضوعية. من يبحث بصدق، بموضوعية وتجرد، من دون حدة أو جدال، سيجد لا محال!

لكن لماذا خلق الله كل شيء مع علمه بأن الشيطان والإنسان الساقط لن يتنعما بالحياة؟ لماذا قام الله بالخلق مع علمه بأن الشر سيخرج من هذا الأخير؟

إن الخالق حر إلى أقصى الحدود. بناءً على ذلك قام الله بالخلق، معبراًً عن شعور محبة لامتناهية نحو الذين دعاهم إلى الحياة. بينما لو أنه امتنع عن الخلق، عندما رأى مسبقاً أن – من بين الأرواح والبشر- هناك مخلوقات ستصبح شريرة بسبب الحسد أو التحدي، لما كان حراً. لكان تجرد من شخصيته. لو أن الله قد امتنع بالفعل عن الخلق بسبب مثل هذا التعارض، لكان خضع لأعداء حتى قبل أن يوجدوا. هذا بالطبع غير منطقي، لأن الخالق حر إلى أقصى الحدود. كما أن الإنسان حر في أن يفعل ما يشاء ضمن إطار طبيعته، فكم بالأحرى الله الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء بناءً على طبيعته المطلقة الحرية. إن تعارض الطبيعة المخلوقة غير قادر على كبح الإرادة الكلية القدرة لمهندس الخلق الكبير.

الأرواح الملائكية والبشر الذين سقطوا هم أحرار بأن يدمروا أنفسهم تدميراً ذاتياً. لكن ما خلقه الله في البدء، كان كاملاً، كلٌّ بحسب طبيعته الخاصة. هذا هو تعليم الكتب المقدسة.

بيسوع المسيح، يرد الله حياته الأبدية بمحبة عظيمة إلى الذين يشاركون في هذا الافتداء. “ما من حب أعظم من هذا: أن يضحي الإنسان بنفسه في سبيل أحبائه”، قال يسوع (يوحنا 3، 16 / 15، 13 / يوحنا الأولى 4، 9). لذلك يجب أن يكون لدينا ما يكفي من التواضع والامتنان، والقبول بمد اليد للإمساك بالنعمة الممنوحة مجاناً. هناك، للأسف، عدد قليل يريد أن يفهم.

الإنسان النبيه سيعرف كيف يسترجع، بيسوع، ما سلبه منه الشيطان، من خلال آدم.

المرحلة الثالثة – الخيار: الوحي الإلهي

مقدمة

بما أننا اخترنا الوحي الإلهي، سنعمق معرفتنا بدراسة الكتب التي تتكلم عنه. أقترح عليك إذاً أن تتفحص الكتاب المقدس عبر دراسة “تفسير الكتاب المقدس” والقرآن من خلال نص “نظرة إيمان بالقرآن الكريم”.

وحده قلب طاهر سيتمكن من الوصول إلى نهاية البحث. إليك أنت إذاً، أيها “القلب الطاهر”، أتوجه وأوجه هذا التفسير للكتاب المقدس. لقد طهرت قلبك بـ “تحريره من حالته”، تحررت من قيود الأحكام المسبقة ومن الحقد. عطشك لمعرفة الحقيقة المجردة سيقودك إلى الإصغاء إلى لحنها العذب والمحيي.

أيها “القلب الطاهر”، إليك وحدك أتوجه، إليك أنت المستعد للتضحية بكل شيء كي ترتفع. إليك أنت الذي تتألم من الجهل، الذي تريد أن تعرف كي تحب. إليك أنت الذي ترغب بالتغلب على الظلمات لتعانق الشمس. أنت الذي سئمت النوم إلى درجة أنك قررت أن تحطم تابوت محبة العالم، وأن تنقطع عن التافه والسخيف. إليك أنت الذي اكتشفت وهم الغرور، المستعد لأن تدفع الثمن الغالي للحقيقة والسعادة الحقيقية، أنت الذي تملك إرادة المثابرة والتغلب على كل العوائق ومجابهة جميع التحديات للوصول إلى القمة والارتواء من النبع الصافي للحياة الذي لا ينضب. أيها “القلب الطاهر”، إليك أتوجه.

أنقل إليك ثمرة أربعين سنة من الدراسة والبحث والتعب. إنها ثمرة مقطوفة على شجرة الحياة، “ذهب مصفّى بالنار” (رؤيا 3، 18). لقد أعطتني هذه الثمرة السعادة التي بدوري أتمناها لك. إن تمكنت من تذوقها، فاعلم أنك تدين بذلك إلى عائلتي الروحية وخاصة إلى زوجتي ماري جوزيه وإلى أولادي الروحيين بياتريس، فيليب وميراي: أدين لهم بتمكني من تقديم هذه الدراسة لك.
لقد حاولت ربما أن تقرأ الكتاب المقدس، لكن الصعوبات قد حالت دون ذلك. لا توهن عزيمتك، لأنك، كي تفهم الكتاب المقدس وفقاً لروح الله، أنت بحاجة إلى مرشد أمين. ينقل إلينا كتاب أعمال الرسل عن الرسول فيلبس عندما سأل وزير الحبشة الذي كان يقرأ في الكتاب المقدس مقطعاً من النبي إشعيا، قائلاً: “أتفهم ما تقرأ؟” فأجابه: “كيف أفهم ولا أحد يشرح لي؟” فجلس فيلبس إلى جانبه وبدأ من هذا المقطع يبشره بيسوع” (أعمال 8، 30 – 31).

هذا التفسير للكتاب المقدس هو مرشدك الأمين؛ “إجلسه إلى جانبك”، كما جلس فيلبس إلى جانب وزير الحبشة، وتابعه خطوة خطوة، بانتظام، دون توقف، قليلاً كل يوم. في النهاية، ستكون قد امتلكت الحياة من خلال المعرفة.
كان البابا بيوس الثاني عشر يقول:

“إن جهل الكتب المقدسة هو جرح في خاصرة الكنيسة”.

كذلك، كلما فهمت نقطة غامضة، كلما التأم هذا الجرح، وستتمدد رئتا نفسك وتتنفس فرح معرفة وفهم الله بشكل أفضل. وستقودك هذه المعرفة إلى المحبة التي بدورها ستدفعك إلى الرغبة في أن تعرف خالقك الرائع أكثر فأكثر. عندئذٍ ستود أن تشبهه، أن تحصل على روحه، على ذهنيته، بدلاً من ذهنيتك الضيقة. هاتان هما “القيامة” و “الولادة الثانية” اللتان يتكلم عنهما يسوع (يوحنا 5، 25 و 3، 5 – 7). حينئذ ستنفتح عيون قلبك وسترى الحياة من منبعها: “هنيئاً لأنقياء القلب لأنهم سيرون الله” (متى 5، 8). رؤية الله: هذه هي السعادة الحقيقية.

بعد دراسة هذا التفسير، مع الوقت والمثابرة على قراءة الكتاب المقدس، لن يبقى خفياً عليك، وسيصبح روحه فيك، ويظهر لك بطريقة مباشرة، من الداخل، نصائح الخالق البديع. لأنه سيعلّمك، وهذا هو هدفه، أن تعيش معه باستمرار وأن تتنعم برفقته الدافئة انطلاقاً من هذه الدنيا.

لأن هدف الكتاب المقدس، في نهاية المطاف، أن ينقل إليك روحاً، روح الله؛ هذ الروح هو الله نفسه فيك. المعرفة الكتابية ليست غاية بحد ذاتها؛ لا تجدي نفعاً إن لم تؤدي إلى اكتساب روح الله وطريقته الخاصة برؤية وابتغاء وحب الحياة، الحياة الحقيقية. المقصود ليس التشبث بالحياة المادية لهذا العالم المادي، بفرحه المخادع والمخيب للآمال دائماً، بل بالحياة الروحية، حياة روحك. إنفتح على العالم الأبدي الذي أنت مدعو لاكتشافه من هذه الدنيا، هذا هو سبب وجودك على الأرض. هذه هي المغامرة الكتابية الكبيرة التي أنت على وشك الإقدام عليها. لتكن هذه المغامرة طموحك الأكبر في هذا العالم الزائل حيث لن يدوم إلى الأبد سوى المكتسب الروحي.
إبدأ بشراء كتاب مقدس جيد. تصفحه. في البداية ستشعر أنك تائه بعض الشيء. هذا طبيعي. لكنك سترى فيما بعد، بعد هذا التفسير، أنك والكتاب المقدس أصبحتما صديقين لا يفترقان مدى الحياة.

نعم، صديقان لا يفترقان مدى الحياة. لا تتصور أنك ستكتشف كل شيء دفعة واحدة، مرة واحدة، من القراءة الأولى، دون أن تعود مجدداً إلى هذا الكتاب المقدس. كلما راجعت كتابك المقدس، كلما انكشف لك؛ روحه سيتكلم معك من الداخل، خاصة إن كنت تقرأه بمحبة وحماس. عليك أن تعتاد طوال حياتك أن تكرس عشرة دقائق على الأقل يومياً لقراءة النصوص الكتابية بصورة منتظمة، حتى بعد انتهائك من هذا الدرس.

لا تكتفِ أبداً بالقول إنك قرأت الكتاب المقدس 2، 3، 5 أو 10 مرات، كما يقول البعض، مدعين أنهم “يعرفونه عن ظهر قلب”. هذا الكلام يدل على عدم فهم لروح الكتاب المقدس. في قراءتنا للكتب المقدسة، لا نقوم بعد وإحصاء قراءة، إنما بتردد يومي ومتواصل على قراءة نصوصها. لا تترك أي يوم يمر دون أن تغسل قلبك بقراءة نص، تماماً مثلما تغسل وجهك بالماء كل يوم. حتى هذا اليوم، وبعد 40 سنة من التردد اليومي المتواصل والمثابر، ما زلت اكتشف تفصيلاً جديداً من هنا أو فرقاً من هناك يجعلني أفهم بشكل أفضل مقصود المؤلف الكتابي. فيقرّبني ذلك أكثر فأكثر من الله سبحانه وتعالى.

في ملحق هذا التفسير، ستجد دراسة موجزة للقرآن: “نظرة إيمان بالقرآن الكريم”. ستلاحظ بالتالي أن القرآن ليس مختلفاً عن الكتاب المقدس، بما أنه يقدّم نفسه كترجمة للكتاب المقدس “بلسان عربي مبين” موجهة إلى عرب شبه الجزيرة العربية في القرن السابع م. الذين لم يكن باستطاعتهم في ذلك العصر قراءة الكتاب المقدس لأنه لم يكن موجوداً سوى باللغات العبرية، اليونانية واللاتينية، وجميعها لغات يجهلونها.

قراءة القرآن ستحررك من التعصب الطائفي الذي نهلك فيه ويهلك أيضاً كثير من المؤمنين السيئين الذين، بسبب تزمتهم، يكتفون بقراءة واحدة للكتاب المقدس والقرآن. عليك أن تعرف الاثنين معاً، دون أن يغيب عن بالك أن القرآن ينقل الرسالة الكتابية، يصدّق عليها ويقدّم الإنجيل.

إن كنتُ أبدأ بالكتاب المقدس، فلأنه يسبق القرآن زمنياً. سيمنحك الإنجيل روح انفتاح. إن كنت طيعاً له، سيمكنك من قراءة القرآن بموضوعية ومن دون أحكام مسبقة. ستلاحظ أن الذين يطعنون بالكتاب المقدس أو القرآن يظنون أنهما مختلفان أو متناقضان؛ إنهم مخطئون. إمضِ قدماً قائلاً في نفسك أنك ستقرأ كلاً من الكتابين. ستفهم أنهما ينقلان الرسالة نفسها بلغة وأسلوب مختلفين لأنهما يتوجهان إلى مجتمعين مختلفين.

الاجتهاد والمثابرة هما العنصران الأساسيان لنجاحك؛ عليهما يتوقف إعدادك الروحي والنبوي.

لننطلق الآن سوياً في مراعي الكتاب المقدس. تابع بصبر هذا التفسير الكتابي المؤلف من 15 درساً، واعكف على قراءة فصول الكتاب المقدس كلما أحلتك إلى ذلك.

ما هو الكتاب المقدس؟

منذ 4000 سنة، 2000 سنة قبل المسيح، كانت البشرية جمعاء تجهل وجود الله الخالق الوحيد. كان الإنسان وثنياً وكان لكل مجتمع ميثولوجيته المتعددة الآلهة، المختلفة الأسماء، يحكمها إله واحد، سيد أعلى، “بعل” للكنعانيين، “جوبيتر” للرومان، “زوس” لليونانيين، “أهورامزدا” للزردشتيين (إيران الحالية) إلخ…

كان لا بد للخالق الأوحد أن يكشف عن ذاته شخصياً للبشرية كي تعرفه. إبراهيم الآرامي كان البشر الأول الذي كشف له الله عن ذاته شخصياً نحو 2000 سنة ق.م (تكوين 12، 1 – 3).
دون هذا التجلي لكانت الإنسانية بأسرها غارقة في جهل تام لقصة الخلق وهوية خالقه.

هذا الكشف الإلهي لابراهيم شكل بالنسبة له ولمحيطه انقلاباً تاماً كونه حصل في فترة من التاريخ كان فيها الإيمان بإله واحد غير معروف وغير مقبول، حيث كان للوثنية قواعدها الثابتة وعباداتها الصارمة والمربحة. مثل هذا الكشف لم يكن ليناسب الجميع. فرجال الدين الوثنيين كانوا يعيشون من التقدمات إلى الآلهة، وكان صانعو الأصنام يستفيدون كل الاستفادة من تجارة أصنافهم المربحة. اليوم أيضاً، في مجتمع القرن الواحد والعشرين، الكشف عن الله الواحد يزعج من الناس أكثر مما يُفرح.

يروي الكتاب المقدس قصة الحوار الذي أجراه الله مع ابراهيم، العهد المختوم بينهما وأول مجتمع توحيدي نتج عنه. فقد بذل هذا الأخير قصارى جهده ليشرح، وفقاً للحقائق العلمية الغامضة لذلك العصر، كيف أن الله، هو وحده، خلق الكون. كما أراد أيضاً تفسير مصدر الشر وأسباب المآسي البشرية. تمّ حفظ ذلك خطياً في الكتاب المقدس.
المعلومات القليلة التي كانت بحوزة المؤلفين الكتابيين (الكتبة) أجبرتهم على الرجوع إلى روايات الميثولوجيا لكن بتوحيد محتواها. بالتالي، لم تعد “الآلهة” هي التي خلق أحدها السماء، أحد ثانٍ الشمس، وأحد آخر القمر، النجوم، البحر أو الريح إلخ…، بل إنه الله الأوحد الذي تجلى لابراهيم، وهو وحده، بجبروته، الذي خلق كل شيء.

لقد انحرف المجتمع التوحيدي الأول عن الخط الذي رسمه الله (صموئيل الأول 8، 5 – 20 / 11، 14 – 15 / 12، 19). فارسل له الله أنبياؤه ليعيدوه إلى الطريق الإلهي (إرميا 7، 22 / إرميا 8، 8 / عاموس 5، 21 – 27 / ميخا 6، 6 – 8 / هوشع 8، 1 – 4 / هوشع 9، 15). أعلن هؤلاء أن الله سيرسل أعظم الأنبياء، المسيح، لينوّر البشرية جمعاء بمعرفة الله، وليس اليهود وحدهم (إشعيا 42، 1 / رومة 3، 29)، معرفة تمسّك بها المجتمع التوحيدي الأول بعناية قصوى (أعمال 11، 1 – 3).

هذا المسيح هو يسوع الناصري، الذي أتى ليوجه جميع القلوب العطشى للحقيقة نحو كمال النور. تلك هي، باختصار، قصة الكتاب المقدس المتجسدة تماماً بيسوع الذي يقول:

“من يسمع لي ويؤمن بمن أرسلني، فله الحياة الأبدية… لأنه انتقل من الموت إلى الحياة” (يوحنا 5، 24).
“إن عطش أحد، فليجىء إلي ليشرب. ومن آمن بي… تفيض من صدره أنهار ماء حي (يوحنا 7، 37 – 39).
“أنا هو الطريق والحق والحياة” (يوحنا 14، 6).
“قلت لكم هذا ليدوم فيكم فرحي فيكون فرحكم كاملاً” (يوحنا 15، 11).
“تعالوا إلي يا جميع المتعبين… وأنا أريحكم” (متى 11، 28).

الحقيقة التي نبحث عنها، والسعادة التي نتوق إليها، لا نعثر عليهما لا في شعائر العبادة، لا في العقائد، لا في المجموعات الدينية أو الأبحاث السرية، ولا في دور للعبادة، إنما في لقاء واستقبال الشخص الذي يمتلكهما والذي يوزعهما مجاناً على العطشى: يسوع المسيح (رؤيا 21، 6 / 22، 17). يسوع هو حصيلة الكتاب المقدس بكامله. كل معرفة كتابية تستثنيه هي باطلة لأن:

“الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته”. (يوحنا 17، 3)

ما هو القرآن؟

يقدم القرآن نفسه كوحي كتابي [ بلسان عربي مبين ] (قرآن 26: الشعراء، 192 – 196). يتوجه إلى العالم العربي من خلال النبي محمد. لمزيد من المعلومات راجع نص “نظرة إيمان بالقرآن الكريم”، هذا مقتطف منه:
“إن الفخ الذي وقع فيه كل من المسيحيين والمسلمين، هو اعتبار دين القرآن غير دين الكتاب أو معارضاً له. والقرآن من هذا الإفتراء براء. بالعكس، فالقرآن يقدم نفسه كوحي موجز للوحي الكتابي، أنزله الله على النبي محمد [ بلسان عربي مبين ] لهداية سكان شبه الجزيرة العربية، إذ لم يكن لديهم من قبل النبي [ مُنذِرين ] (أنبياء) كما كان لأهل الكتاب، اليهود والمسيحيين. فيقول الله تعالى في القرآن:

[ وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين (الروح القدس) على قلبك (يا محمد) لتكون من المُنذِرين بلسان عربي مبين وإنه (القرآن) لفي زُبُر (كتب: التوراة والإنجيل) الأولين (اليهود والمسيحيين) ] (قرآن 26: الشعراء 192 – 196).

تجدر الإشارة إلى أن الوحي القرآني موجود [ في زُبُر الأولين ] (الكتب) الذين سبقوا القرآن. القرآن إذاً لا يختلف عن الكتاب بما أنه ينبثق منه. إنه الوحي الكتابي [ بلسان عربي مبين ]. هذا يعني أن القرآن لا يختلف عن الكتاب بما أنه من الكتاب، ولا يختلف عنه إلا من حيث اللغة:

[ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ] (قرآن 13؛ الرعد 37).
[ وكذلك أوحينا إليك (يا محمد) قرآناً عربياً لتنذر أم القرى (مكة) ومن حولها ] (قرآن 42؛ الشورى 7).
[ بل هو (القرآن) الحق من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون ] (قرآن 32؛ السجدة 3).

الكتاب المقدس: تفسير الكتاب المقدس

قراءة نص: “تفسير الكتاب المقدس” على موقعنا.

القرآن: نظرة إيمان بالقرآن الكريم

قراءة نص: “نظرة إيمان بالقرآن الكريم” على موقعنا.

المرحلة الرابعة – السعادة

كل هذا العمل البحثي الذي قمنا به في هذا المسار الروحي يهدف إلى بعث السعادة الداخلية والعميقة، سعادة النفس الواعية على امتلاك كنوز الحياة الأبدية. هذه السعادة هي ثمرة الحياة مع الله، أي ما يدعوه الكتاب المقدس “عمانوئيل” والذي يعني كما رأينا “الله معنا”.

هذه المرحلة لا يمكننا أن نشرحها: كي نفهمها، علينا أن نعيشها.

لقد حصلت على نورٍ كافٍ كي تعيش العمانوئيل وتفهم هذه الكلمة الكتابية:

“ذوقوا تروا ما أطيب الرب” (مزمور 33(34)، 8).

تأمل جيداً: متى 1، 23 / يوحنا 14، 21 – 23 وعبرانيين 9، 2 / يوحنا 17، 21 – 24 / رؤيا 21، 1 – 5 / رؤيا 21، 22 – 27.

قراءة نص: “الإصلاح الشامل”.

بطرس

26.06.1997

Copyright © 2024 Pierre2.net, Pierre2.org, All rights reserved.