انتقل إلى المحتوى

دراسة الكتاب المقدس

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14

الدرس الثالث عشر- إنجيل يوحنا ورسائل الرسل

تقدمة لإنجيل يوحنا ورسائله

لا يتناول إنجيل يوحنا سيرة حياة يسوع كما هو حال الأناجيل المتوافقة. فما كان يهم الإنجيلي هنا، ليس سلسلة نسب المسيح المنتظر، بل حقيقة أخرى مؤثرة وأكثر عمقاً متعلقة بشخصيته: سلالة نسبه الإلهية. كذلك، يستهل مؤلفه بدخول بارع ليكشف لنا ما قد اكتشفه بنفسه، ألا وهو نسب يسوع الإلهي، قائلاً: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله (يوحنا 1، 1)… والكلمة صار بشراً وعاش بيننا” (يوحنا 1، 14).

يوحنا ليس إذاً مؤرخاً لحياة المسيح الأرضية، مثل الإنجيليين الباقين، بل لاهوتي يكشف عن طبيعته الإلهية. الأناجيل المتوافقة تعلمنا أن يسوع هو المسيح المنتظر. يوحنا أيضاً يؤكد هذه الحقيقة، لكنه يذهب أبعد من ذلك – أو بالأحرى أعلى من ذلك – ليعلمنا ما لم يكشفه الآخرون، أن هذا المسيح هو الله المتجسد، الخالق الذي يأخذ شكلاً بشرياً ليكون موجوداً بجسده مع الناس على الأرض وبطريقة ملموسة. إنه أمر فظيع وصاعق عندما نفكر به. إنه فوق كل ذلك حقيقي.

يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي ينقل لنا هذه المعلومة الثمينة، ولهذا السبب لقب بـ “اللاهوتي”. يرمز إليه بطائر النسر لأنه حلق عالياً بفكره.

ليس إلا بعد أن بلغ التسعين من العمر حتى قرر يوحنا أن يكتب إنجيله. كان حينئذ الوحيد الباقي على قيد الحياة من بين الرسل. لم يرى أنه من الملائم أن يكتب قبل ذلك لأنه كان يوجد أناجيل أخرى بالإضافة إلى رسائل الرسل المتعددة لإعلام المؤمنين عن يسوع. ما الذي دفعه إلى الكتابة؟ من المهم أن تعرف.

لقد رأينا في الدرس السابق أن اليهود المناهضين للمسيح كانوا يتسللون إلى الطائفة الناشئة من أجل تدميرها من الداخل. كانوا يربكون المسيحيين ليس فقط من خلال إرغامهم على ممارسة الشعائر اليهودية، بل بزعمهم أن المسيح ليس يسوع بل يوحنا المعمدان، أو يهاجمونهم لإيمانهم بألوهية المسيح. المؤمنون القلقون لجأوا إلى يوحنا ملتمسين عنده العلم والمعرفة التي هم بحاجة إليها. عالمين بأنه كان التلميذ الحبيب ليسوع، كانوا يعرفون أن بامكانهم الوثوق بأقواله.

بدأ يوحنا إنجيله إذاً بتوضيح نقطتي الخلاف التاليتين:

  1. يسوع هو المسيح

    يوحنا المعمدان ليس هو المسيح (النور): “جاء يشهد للنور حتى يؤمن الناس (بالمسيح) على يده. ما كان هو النور، بل شاهداً للنور. الكلمة هو النور الحق…” (يوحنا 1، 6 – 9).
    يسوع، كلمة الله، هو إذاً المسيح.

  2. يسوع هو الله المتجسد

    يسوع هو الكلمة، الكلمة هي الله (يوحنا 1، 1) والكلمة صار جسداً، اتخذ جسداً بشرياً ليسكن مع البشر (يوحنا 1، 14). إذاً يسوع هو حقاً الله المتجسد.

بما أنه كان في نفس الوقت تلميذاً ليوحنا المعمدان ورسولاً ليسوع (مثل أندراوس: يوحنا 1، 35 – 40)، كان يوحنا في مركز يمكّنه من تهدئة المؤمنين الذين لجأوا إليه، ومن إسقاط الخدع التي نشرها الأنبياء الكذابون الذين أدانهم في رسائله (يوحنا الأولى 4، 1 – 6 / يوحنا الثانية 1، 7)، وفي كتاب الرؤيا (حيث يصفهم باليهود المزعومين وبمجمع الشيطان: رؤيا 2، 9 و 3، 9. “النقولاويون”: رؤيا 2، 6 هم شيعة مؤلفة من اليهود الذين كانوا يزعمون الإهتداء إلى المسيحية وينكرون ألوهية يسوع).

الطريقة المناسبة لدراسة إنجيل يوحنا هي بقراءته بانتباه لتكتشف فيه:

  1. الآيات التي تبرهن أن المسيح هو يسوع، لا يوحنا المعمدان
  2. التلميحات، الخفية غالباً، في أحاديث يسوع، على أنه الله المتجسد.

ستقرأ هذا الكتاب الرائع بعد التوضيحات المعطاة لكل من هاتين النقطتين لمساعدة بحثك.

يسوع هو المسيح

في البدء، كثير من اليهود اعتقدوا أن يوحنا المعمدان هو المسيح. تعلمنا الأناجيل أن يوحنا المعمدان أصر على قوله لهم: “أنا أعمدكم بالماء من أجل التوبة، وأما الذي يجيء بعدي (يسوع) فهو أقوى مني، وما أنا أهل لأن أحمل حذائه. هو يعمدكم بالروح القدس والنار” (متى 3، 11). مع ذلك، يطلعنا لوقا، فيما بعد، أنه كان يوجد في أفسس بعض اليهود الذين كانوا يكتفون بمعمودية يوحنا المعمدان (أعمال 19، 1 – 7). والحال أن يوحنا كان موجوداً هو أيضاً في أفسس بالتحديد. ويهود هذه المدينة كانوا “المسحاء الدجالين” الأكثر عنفاً: “… رأى بعض اليهود الآسيويين بولس في الهيكل، فحرّضوا جمهور الشعب، وقبضوا عليه” (أعمال 21، 27).

في إنجيله، شدد يوحنا وكرر أكثر من مرة شهادة يوحنا المعمدان: “ظهر رسول من الله اسمه يوحنا. جاء يشهد للنور حتى يؤمن الناس على يده. ما كان هو النور، بل شاهداً للنور. الكلمة هو النور الحق” (يوحنا 1، 6 – 9)… شهد له يوحنا فنادى: “هذا هو الذي قلت فيه: يجيء بعدي ويكون أعظم مني، لأنه كان قبلي” (يوحنا 1، 15)… هذه شهادة يوحنا… : “ما أنا المسيح”… (يوحنا 1، 19 – 27)… وفي الغد، رأى يوحنا يسوع مقبلاً إليه، فقال: “ها هو حمل الله… هذا هو الذي قلت فيه: يجيء بعدي رجل… وأنا رأيت وشهدت أنه هو (المسيح) ابن الله…” (يوحنا 1، 29 – 36). “أنتم أنفسكم تشهدون بأني قلت: ما أنا المسيح، بل رسول قدامه…” (يوحنا 3، 26 – 36).

لذلك، منذ البداية، يطمئن يوحنا تلاميذه: يسوع هو حقاً المسيح ابن الله. يختم إنجيله بتثبيتهم في هذا الإيمان قائلاً: “أمّا الآيات المدونة هنا، فهي لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة” (يوحنا 20، 30 – 31).

ألوهية يسوع

يستهل يوحنا إنجيله بكلمة مفتاحية ذات أثر كبير على الذهنية اليهودية: “في البدء”، بالعبرية “بيريشيت” (“بي”: في، “ريشيت”: البدء). هذه الكلمة تأخذ أهميتها من كونها تفتتح كتاب العهد القديم، التوراة. فكتاب التكوين يبدأ هكذا: “في البدء (بيريشيت) خلق الله السماوات والأرض”.

عن عمد ومدفوعاً بروح الله، يستعمل يوحنا هذه الكلمة التي تصيب القلب اليهودي وتصدمه لينفتح على كتب العهد الجديد. فبنفس الروح يبدأ يوحنا رسالته الأولى: “الذي كان من البدء…”.

من خلال إجابته للمؤمنين الذين جاءوا يلتمسونه، أراد يوحنا أن يكتب كتاب تكوين جديد، “بيريشيت” جديد: “في البدء كان الكلمة… به كان كل شيء، وبغيره ما كان شيء مما كان. فيه كانت الحياة، وحياته كانت نور الناس… ظهر رسول من الله اسمه يوحنا (المعمدان)… ما كان هو النور، الكلمة هو النور الحق” (يوحنا 1، 1 – 9).

بهذه الكلمات الشجاعة، يشرح يوحنا بعمق ما يقوله كتاب التكوين عن الله، خالق السماء، والأرض والنور. هذا الخالق ليس إلا الكلمة: “به كان كل شيء” (يوحنا 1، 3)، لأنه “في البدء كان عند الله” (يوحنا 1، 2) و “كان الكلمة الله” بنفسه (يوحنا 1، 1). “والكلمة صار بشراً (بيسوع)” (يوحنا 1، 14). الذين التجأوا إلى يوحنا لم يكونوا يتمنون جواباً أفضل. تفهم الآن لماذا دُعي يوحنا “اللاهوتي”.

على طول صفحات إنجيله، يضع يوحنا كل طاقته لينقل بأمانة أحاديث يسوع التي يعتمد عليها ليقول “إنه في البدء كان عند الله وكان هو الله”. ألم يسمعه يقول لليهود: “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” ؟ (يوحنا 8 ، 58). ألم يسمع يوحنا المعمدان يقول أيضاً أمامه هو، تلميذه: “يجيئ بعدي رجل صار أعظم مني، لأنه كان قبلي”؟ (يوحنا 1، 30). والحال أن يوحنا كان يعرف أن إبراهيم سبق يسوع على الأرض بألفي سنة وأن يوحنا المعمدان سبقه بستة أشهر. لم يكن يقدر أن يسكت في إنجيله عن النتائج المنطقية التي استخلصها مما كان قد سمعه. لقد نقل إلينا شهادته بمحبة ودقة حتى يخلّص الذين يؤمنون بها.

الإيمان بألوهية يسوع كان موجوداً قبل إنجيل يوحنا. فقد رجع إليه بولس في رسائله: “هو في صورة الله ما اعتبر مساواته لله غنيمة له”، قال عن يسوع (فيلبي 2، 6). وأيضاً: “فاسلكوا في الرب يسوع المسيح… ففي المسيح يحل ملء الألوهية كله حلولاً جسدياً” (كولوسي 2، 6 – 9). رسائل بولس تسبق إنجيل يوحنا بحوالي 40 سنة.

بما أن المسيحيين كانوا يؤمنون بالتجسد الإلهي، بـ “ملء” كماله، في شخص يسوع، لماذا كتب يوحنا ليقنع تلاميذه بما كانوا يعرفونه أصلاً؟ لأنه، كما قلت، كان قلقاً من المضللين الذين كانوا يحاولون زرع الشك والفتنة في صفوف المسيحيين. إنهم المتحدرون من الأغلبية اليهودية التي كانت تنكر يسوع، والذين وصفهم يوحنا “بالمسحاء الدجالين”، فيقول عنهم: “سمعتم أن مسيحاً دجالاً سيجيء، وهنا الآن كثير من المسحاء الدجالين… خرجوا من بيننا (من اليهود) وما كانوا منا… فمن هو الكذاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح، هذا هو المسيح الدجال” (يوحنا الأولى 2، 18 – 22). بولس أيضاً يشير إليهم قائلاً: “فسر المعصية يعمل الآن عمله” ضد اليهود الأولين المؤمنين بيسوع (تسالونيكي الثانية 2، 7).

الفريقان اليهوديان

بكلامنا عن المسحاء الدجالين، أغتنم الفرصة لأتكلم عن الفريقين اليهوديين الناجمين عن مجيء يسوع: الذين كانوا معه، مع المسيح، والآخرون الذين اصطفوا ضده، المسحاء الدجالين.

يسوع، المسيح الروحي، الذي لم يكن قومياً يهودياً، قسّم المجتمع العبري إلى فريقين: “ووقع خلاف آخر بين اليهود على هذا الكلام، فقال كثير منهم: هذا الرجل فيه شيطان، فهو يهذي. لماذا تصغون إليه؟ وقال آخرون: ما هذا كلام رجل فيه شيطان…” (يوحنا 10، 19 – 21).

كذلك، “أثار بولس الفتن بين اليهود في العالم كله” (أعمال 24، 5) مفرقاً “الزؤان عن القمح الجيد”، الغير مؤمنين عن المؤمنين. في هذا الاتجاه قال يسوع: “لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى العالم، ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً. جئت لأفرق بين الإبن (الذي لا يؤمن بي) وأبيه (الذي يؤمن بي)… إلخ” (متى 10، 34 – 35). اليهود الغير مؤمنين ينتقدون يسوع لقوله هذا ويتهمونه بهدم الوحدة بين الناس وفي العائلة…

فريق المؤمنين آمن – من خلال النبوءات- أنه كان على المسيح أن يعاني الموت، حتى تنتقل الرسالة التوحيدية من اليهود – الذين أحكموا إغلاقها- إلى الوثنيين (أعمال 17، 1 – 4) و “يعظّم اليهود واليونانيون (الوثنيون المتعددو الآلهة) اسم الرب يسوع” (أعمال 19، 17). كل الذين آمنوا إذاً بيسوع، بالرغم من مقاومة اليهود الإسرائيليين الذين لم يروا فيه هذا المسيح القومي الذي كانوا يتخيلونه موهمين. هكذا إذاً “آلاف اليهود اعتنقوا الإيمان” المسيحي (أعمال 21، 20).

بالمقابل، أنشأ اليهود المتشددون فريقاً متطرفاً من اليهود فقط، “غيتو” قومي عنيف لا يطمح إلاّ إلى “تجديد” مملكة داود في فلسطين. هذا الفريق يعارض الفريق الأول من دون رحمة. هذه المعارضة أصبحت عنيفة إلى حد اضطهاد تلاميذ يسوع الذين كان عليهم أن يجتمعوا “والأبواب مقفلة خوفاً من اليهود” الغير مؤمنين (يوحنا 20، 19).

كان الإنشقاق كاملاً إذاً بين الفريقين وكلمة يسوع أثبتت صوابها: “ما جئت لأحمل سلاماً بل سيفاً”. فبـ “السيف” هلك عدد كبير من الرسل، رُجموا مثل استفانوس (أعمال 7، 59) أو حرفياً “بالسيف” مثل “يعقوب، أخ يوحنا” (أعمال 12، 2).

بالنسبة لله، أيّ من هذين الفريقين يمثّل الوجه الحقيقي للديانة اليهودية؟ هل هو فريق المتطرفين الذين بقوا متعلقين بالمثل الأعلى القومي، أو فريق اليهود تلاميذ يسوع الذين تحولوا إلى “عالميين” بعد تحررهم من الأحكام المسبقة التي كانت تفرضها الرؤية الضيقة والمتطرفة ليهودية أسيء فهمها؟

يجيب يسوع على هذا السؤال عندما يقول: “لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء (يعني كتب العهد القديم): ما جئت لأبطل بل لأكمل… إن كانت تقواكم لا تفوق تقوى معلمي الشريعة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 5، 17 – 20).

يسوع هو إذاً كمال الديانة اليهودية، واليهودي الحقيقي هو الذي جعل نفسه تلميذاً له: “إذا أردت أن تكون كاملاً… تعال إتبعني”، يقول يسوع للرجل الغني الذي يطبق فرائض الشريعة الموسوية بدقة حرفية (متى 19، 21). بعد أن فهم ذلك، هو الذي كان فريسياً ممارساً، أعلن بولس لليهود: “فإذا كنتم للمسيح فأنتم، إذاً، نسل ابراهيم ولكم الميراث حسب الوعد” (غلاطية 3، 29).

كذلك، بحسب الإنجيل، اليهودي الحقيقي هو كل من يجعل نفسه تلميذاً ليسوع. الذين ينكرونه ليسوا يهوداً حقيقيين، بل أنهم “الذين يزعمون أنهم يهود”، “الأخوة المزعومين”، هؤلاء “المثيرين للبلبلة” الذي يتكلم عنهم بولس، “الذين يحاولون تغيير بشارة المسيح” بين المسيحيين (غلاطية 1، 7). إنهم اليهود المزعومون الذين يشير إليهم يوحنا بـ “المسحاء الدجالين” و “المضللين” (يوحنا الأولى 2، 18 – 22 / يوحنا الأولى 4، 2 – 3 / يوحنا الثانية 1، 7)، الذين “لا يعترفون بمجيء يسوع المسيح في الجسد” (يوحنا الثانية 1، 7). “إذا جاءكم أحد بغير هذا التعليم”، يتابع يوحنا، “فلا تقبلوه عندكم ولا تقولوا له: السلام عليك. من سلم عليه شاركه في أعماله السيئة (يوحنا الثانية 1، 10). يحذرنا كتاب الرؤيا من عودة ظهورهم في آخر الأزمنة ويصفهم بـ “اليهود المزعومين”، و “الغاصبين اسم اليهود”، لا بل ينعتهم بـ “مجمع الشيطان” (رؤيا 2، 9 / 3، 9)، واتهمهم يسوع “أنهم أولاد أبيهم إبليس”، لا أبيهم الله (يوحنا 8، 44). هؤلاء اليهود المزعومون العصريون هم القوميون الإسرائيليون.

تعاليم إنجيل يوحنا

ما يهم يوحنا ليست أعمال يسوع بقدر تعاليمه. فينقلها إلينا مشاركاً إيانا بالأحاديث المختلفة التي حصلت بين معلمه والآخرين، تاركاً إيانا نفهم بأنفسنا التعاليم التي يريد يسوع أن يعطيها لبني البشر.

لا يشكل يوحنا إذاً لإئحة عقائد، بل يناشد الحس السليم للذين يعرفون القراءة بين السطور وفهم تعاليم المسيح من كلامه الخاص في محادثاته أو مجادلاته المختلفة.

غالباً ما كان يسوع ينتهز الفرصة من خلال حادثة ما، ولو كانت تبدو تافهة أحياناً (مثل حواره مع المرأة السامرية: يوحنا 4) ليكشف عن حقيقة معينة. حتى أنه في بعض الأحيان كان يخلق المناسبة لإقامة حديث مفيد. هكذا، كان لعجائبه هدف غير مباشر وأكثر عمقاً، وهو إثارة المناقشات التي يعرض خلالها وجهات نظره – عن التوراة، مثلاً- ليقوّم الإنحرافية التي غرق فيها المجتمع العبري.

لقد عمل يسوع المعجزات في السبت، ليقول إنه في هذا اليوم لا يجب الإنتقاص إلى جمودية شبه تامة، كما كان اليهود يعتقدون. فقد شفى كسيحاً في السبت، ما أثار استنكار اليهود ومنحه الفرصة ليرد عليهم قائلاً: “أبي يعمل في كل حين، وأنا أعمل مثله. فازداد سعي اليهود إلى قتله، لأنه مع مخالفته الشريعة في السبت، قال إن الله أبوه، فساوى نفسه بالله” (يوحنا 5، 17 – 18).

ما يريد يوحنا أن يعطينا فوق كل ذلك، هو هذا الكلام ليسوع: “ما تعليمي من عندي، بل من عند الذي أرسلني” (يوحنا 7، 16). هذه العقيدة نقلها إلينا يوحنا من خلال الأحاديث التالية التي أقامها يسوع:

بناء الهيكل الحقيقي (يوحنا 2، 13 – 22)

جدال مع اليهود في الهيكل ليتكلم عن خرابه وبناء الهيكل الحقيقي، “هيكل جسده”، أي هيكل شخصه هو (راجع رؤيا 21، 22).

الحوار مع نيقوديموس (يوحنا 3، 1 – 21)

يكشف يسوع فيه ضرورة “الولادة الثانية بالروح”، التغيير والتحرر من الأحكام المسبقة والتعصب للتوصل إلى رؤية الحقيقة واختيارها بموضوعية بعد تحطيم القيود الجسدية، “لأن مولود الجسد يكون (يبقى) جسداً ومولود الروح يكون روحاً” ويحيا إلى الأبد.

الحوار مع المرأة السامرية (يوحنا 4، 1 – 42)

يسوع يثير حديثاً مع امرأة سامرية لثلاثة أسباب:

  1. القضاء على الكراهية بين اليهود والسامريين، كراهية أقيمت على النبذ: “لأن اليهود لا يخالطون السامريين”، كما يضيف يوحنا (يوحنا 4، 9). مثل السامري الصالح صدم اليهود (لوقا 10، 29 – 37). هذه المقاربة الحميمة ليسوع، وهو يهودي، أدهشت المرأة إذاً: “أنت يهودي وأنا سامرية، فكيف تطلب مني أن أسقيك؟” (يوحنا 4، 9). لقد قام يسوع بخطوة مناهضة للعنصرية.
  2. القضاء على الأحكام المسبقة الاجتماعية لذلك العصر، خاصة في ذهنية تلاميذه الذين ذهلوا لرؤيته يتكلم مع امرأة (يوحنا 4، 27) سامريةعلاوة على ذلك (يوحنا 4، 9).
  3. السبب الرئيس هو أن يكشف للسامريين أنه المسيح (يوحنا 4، 25 – 26 / 4، 41 – 42).

لاحظ أن السامريين – كأطفال ودعاء وأبرار- آمنوا بيسوع، لا لأنهم شاهدوه يعمل المعجزات، بل ببساطة من ما “سمعوه” من المرأة السامرية (يوحنا 4، 39 – 42). أما اليهود فبدوا بالعكس متحفظين. لقد أعلن يسوع بنفسه، عند عودته إلى الجليل بعد يومين: “لا كرامة لنبي في وطنه” (يوحنا 4، 44). فيقول في قانا أيضاً بمرارة: “أنتم لا تؤمنون إلا إذا رأيتم الآيات والعجائب!” (يوحنا 4، 48)… كما آمن به السامريون من دون أن يشاهدوا العجائب.

القيامة الروحية (يوحنا 5، 1 – 47)

إنها قيامة الروح من خلال قبول الحقيقة التي أعلنها يسوع. إنها تدعى “القيامة الأولى” (رؤيا 20، 5 – 6). بشفائه كسيحاً، يغتنم يسوع الفرصة ليكشف عن نسبه الإلهي، عن “مساواته لله” و “الله نفسه” كما قال اليهود المصدومين (يوحنا 5، 17 – 18 / 10، 33). بهذه المناسبة، يعلن يسوع أيضاً أن “الأموات سيسمعون صوت ابن الله، وكل من يصغي إليه يحيا” (يوحنا 5، 25). هذا يعني أن الوثنيين، الذي يعتبرهم اليهود كأموات، سيقومون إلى الحياة الروحية بفضل إيمانهم بيسوع. النبي باروك يقول لليهود المسبيين في بابل، الذين اعتبروا “أمواتاً”: “لماذا يا بني إسرائيل، لماذا أنتم في أرض الأعداء؟ شختم في الغربة، وفي مثوى الأموات (البابليين) تحسبون مع الذين هم في الجحيم” (باروك 3، 10 – 11).

عودة الروح هذه إلى الحياة هي قيامة روحية، قيامة الروح في الجسد الذي يحيا في هذه الدنيا. فيقول يسوع: “ستجيئ ساعة، بل جاءت الآن، يسمع فيها الأموات (الخاطئون) صوت ابن الله وكل من يصغي (التائبون) إليه يحيا” (يوحنا 5، 25). كتاب الرؤيا يدعوها “القيامة الأولى” (رؤيا 20، 5 – 6).

ليس المقصود إذاً “القيامة الثانية”، تلك التي ستحصل في نهاية العالم. يفسرها يسوع قائلاً: “ستجيء ساعة يسمع فيها صوته جميع الذين في القبور، فيخرج منها الذين عملوا الصالحات ويقومون إلى الحياة، والذين عملوا السيئات يقومون إلى الدينونة” (أي العذاب الأبدي: يوحنا 5، 28 – 29). هذا الموت النهائي للروح يدعوه كتاب الرؤيا (رؤيا 20، 6) “الموت الثاني” (الأول هو الموت الجسدي، والثاني هو موت الروح).

لاحظ شجاعة الكسيح الذي شفي: “من ثمان وثلاثين سنة” كان يمثل إلى البركة ليحصل على الشفاء، “لكن كلما حاول النزول إلى الماء يسبقه أحد آخر”. لقد شفاه يسوع لأنه “عرف أن له مدة طويلة على هذه الحال” دون أن يفقد الأمل بالشفاء.

“خبز” الحياة الأبدية (يوحنا 6، 1 – 67)

يسوع يكثّر أرغفة الخبز ليتكلم عن “خبز” آخر قادر على إعطاء الحياة للروح، الحياة الأبدية، كما كلّم المرأة السامرية عن “ماء” الحياة الأبدية انطلاقاً من ماء بئر يعقوب (يوحنا 4، 13 – 14).

لكن قبل قيامه بالأعجوبة، هو الذي “كان يعرف جيداً ما سيعمل”، أراد يسوع أن “يجرب فيلبس”، والرسل الآخرين أيضاً. فقال لفيلبس: “من أين نشتري الخبز لنطعمهم ؟”. لاحِظ أنه قال ذلك “ليجرب فيلبس” (يوحنا 6، 5 – 6). إذ أن فيلبس كان أحد الرسل الموجودين في قانا عندما حول يسوع الماء إلى خمر (يوحنا 1، 43 و 2، 1 – 3). كان عليه إذاً أن يعلم أن يسوع كان قادراً على إطعام هذه الألاف من الناس بدون أي مشكلة. بينما لا فيلبس، ولا اندراوس -الذي كان أيضا موجوداً في قانا- لم يفهما ما كان ينوي ويقدر يسوع أن يعمل (يوحنا 6، 8). كان يجب عليهما أن يجيباه: “لكنك قادر على كل شيء، يا سيد! ليس عليك إلا أن تقول كلمة واحدة، كما في قانا، وسيكون هناك خبز للجميع!”

يجب أن نقرّب الأعجوبتين: أعجوبة الخمر وأعجوبة الخبز، هاتين المادتين اللتين من خلالهما قدّم لنا يسوع نفسه بعشائه الروحي. لم أفسر أعجوبة قانا بعد (يوحنا 2، 1 – 11) كي أتكلم عنها الآن.

قارن موقف مريم العذراء في قانا مع موقف الرسل هنا. في قانا، مريم هي التي طلبت من يسوع أن يكثّر الخمر. “كانت أم يسوع هناك. فدعي يسوع وتلاميذه إلى العرس – فيلبس واندراوس بصورة ملحوظة، بالإضافة إلى آخرين” (يوحنا 2، 2). بالرغم من أنهما كانا يعلمان ذلك، كان فيلبس واندراوس بعيدين في تفكيرهما عن ما كان يسوع سيفعل وعن ما كان قادراً على فعله فيما يخص تكثير الخبز. أمّه، في قانا، هي التي أخذت المبادرة وطلبت منه أن يكثر الخمر. حصلت على طلبها لتفرح المدعوين. مريم التي لا يرفض الله لها طلباً، جعلت يسوع يستبق الوقت الذي سيعمل فيه عجائبه (يوحنا 2، 4). كان على ذلك أن يلهم فيلبس واندراوس في إجابتهما ليسوع بخصوص الخبز.

أشير إلى خطأ في الترجمة، في قانا لا يقول يسوع لأمه: “ماذا تريدين مني يا امرأة؟…إلخ” كما يترجمها البعض، بل يقول: “ما لي ولك يا امرأة؟ ما جاءت ساعتي بعد” (يوحنا 2، 4). بتعبير آخر، يجيب يسوع أمّه مريم التي أشارت إليه بأن الخمر قد نفذ: “ما علاقتنا بالموضوع أنتِ وأنا، هذا لا يعنينا؛ ليس من شأننا. ليس هذا عرسي، ولا وقتي! في عرسي لن ينفذ الخمر. لم يكلفني أحد أن أهتم بالخمر”. بهذا الروح يجب أن نترجم وأن نفهم كلام يسوع حسب النص الأصلي اليوناني (راجع الترجمة في إنجيل اندريه شوراقي). لا يجب إذاً أن نفكر كما يفعل البعض، بأن إجابة يسوع لأمه كانت تدل عن عدم احترام لها. لكان هذا غير جدير بالمسيح… علينا أن لا ننسى أيضاً أن يسوع في النهاية قد استجاب لرغبة أمّه.

في جداله مع اليهود، قال لهم يسوع: “ما من أحد يجيئ إلي إلا إذا اجتذبه الآب الذي أرسلني” (يوحنا 6، 44). يقول هذا، لأن كثيرين أتوا إليه معتقدين بأنه المسيح، إذاً الملك السياسي لإسرائيل. لم يجذبهم إذاً روح والد يسوع. هؤلاء الناس لم يكونوا يتبعون يسوع لأسباب روحية، بل كانوا منجذبين إليه، مثل يهوذا، لمصالح سياسية، إقتصادية ودنيوية. لهذا السبب يقول لهم يسوع: “لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبدية” (يوحنا 6، 27). كان يتكلم عن جسده ودمه، خبز وخمر الحياة الأبدية (يوحنا 6، 51 – 58). وحدهم الذين اجتذبهم الآب هم قادرون على فهم المعنى العميق لكلام يسوع الروحي. أما الذين جذبتهم إليه خيرات الدنيا لم يفهموا معنى أقواله وانتهى بهم الأمر إلى التخلي عنه، كما فعل يهوذا لاحقاً (يوحنا 6، 60 – 71).

ماء الحياة (يوحنا 7، 37 – 39)

عندما تكلم يسوع إلى المرأة السامرية عن الماء الذي يعطيه، “عنى بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون به” (يوحنا 7، 39). كي نرتوي من هذا الروح الذي يعطي الحياة للنفس، يجب أن نعطش. الفاترون هم مستبعدون. يسوع يعطي هذا الروح بالذات في القربان المقدس “لكل من كان عطشاناً” (متى 26، 27 – 28 / رؤيا 22، 17).

خطبة يسوع في الهيكل (يوحنا 7، 1 – 53)

عيد المظال، الذي يسمى أيضاً عيد الحصاد (خروج 23، 16)، يحيي ذكرى الإقامة 40 سنة في صحراء سيناء تحت المظال (لاويين 23، 42 – 43). في مناسبة هذا العيد يحج اليهود في كل عام إلى أورشليم ليقدموا الأضاحي إلى الهيكل. ما زال يحتفل بهذا العيد حتى اليوم في إسرائيل.

“قال له إخوته”، أي سكان الناصرة: “أترك هذا المكان واذهب إلى بلاد اليهودية حتى يرى التلاميذ أعمالك، فلا أحد يعمل في الخفية إذا أراد أن يعرفه الناس. وما دمت تعمل هذه الأعمال، فأظهر نفسك للعالم” (يوحنا 7، 3 – 4). مباشرة بعد هذه الآية يوضح يوحنا أن: “أخوته أنفسهم لم يكونوا يؤمنون به” (يوحنا 7، 5).

لماذا مواطنو يسوع دفعوه للذهاب إلى أورشليم كي يظهر أمام العالم مع أنهم لم يكونوا يؤمنون به؟ وكانوا يعرفون مع ذلك أن “اليهود كانوا يريدون قتله؟” (يوحنا 7، 1 / 7، 13).

يجب أن نفهم أن هؤلاء الناس كانوا يكلمون يسوع بلهجة وقحة وساخرة ويتحدونه أن يقف أمام الشعب ويقول إنه المسيح المنتظر. لم يعتقدوه قادراً أن يكون هذا القائد السياسي المنتظر الذي سيتمكن من إرضاء الإسرائيليين المتعطشين للاستقلال الوطني. علينا أن لا ننسى أن يوحنا المعمدان والرسل كانت عندهم بالفعل صعوبة في فهم رسالة يسوع الروحية الصرفة ومملكته الروحية التي “ليست من هذا العالم”. كما أعلن أمام بيلاطس (يوحنا 18، 35 – 37).

هؤلاء الناصريون كانوا يخاطبون يسوع بنفس روح التحدي مثل الشيطان الذي قال له: “إن كنت ابن الله (المسيح)، فقل لهذه الحجارة أن تصير خبزاً… إن كنت ابن الله، فالق بنفسك إلى الأسفل” (متى 4، 3 – 5). بهذا الروح السيء أيضاً، عندما كان يسوع على الصليب، “كان المارة يهزون رؤوسهم ويشتمونه ويقولون: إن كنت ابن الله، فخلص نفسك وانزل عن الصليب. وكان رؤساء الكهنة ومعلموا الشريعة والشيوخ يستهزئون به، فيقولون: خلّص غيره، ولا يقدر أن يخلص نفسه! هو ملك إسرائيل، فلينزل عن الصليب (ليعيد ملك داود) لنؤمن به!… قال: أنا ابن الله !” (متى 27، 39 – 44). “لا تجربوا الرب إلهكم!” (التثنية 6، 16).

يمكننا أن نفهم لماذا أجاب يسوع مواطنيه قائلاً: “ما جاء وقتي (لأن أكون ملكاً روحياً وعالمياً). وأمّا أنتم، فالوقت (لإنتظار المسيح القومي) في كل حين وقتكم. أنتم لا يبغضكم العالم (لأنه ينتظر نفس المسيح الذي تنتظرون وعنده نفس الروح الذي عندكم)، ولكنه يبغضني لأني أشهد (من خلال مسيحيتي الروحية) على فساد أعماله. إصعدوا أنتم إلى العيد، فأنا لا أصعد إلى هذا العيد، لأن وقتي (لأكون ملكاً) ما جاء بعد” (يوحنا 7، 6 – 8).

رفض يسوع الذهاب مع “أخوته” من الجليل إلى أورشليم لأنه لم يكن يريد أن يرافقتهم بروحهم الدنيوي والإنتهازي. فهم لم يطلبوا منه الذهاب إلى أورشليم بروح حج وتأمل، بل بروح حملة إنتخابية، جاعلين من عيد ديني أداة لهدف سياسي. لهذا السبب أجابهم يسوع: “أنا لا أصعد إلى هذا العيد”، يعني لا أذهب معكم وأنتم بهذا الروح. ويضيف يوحنا: “ولما صعد أخوته إلى العيد، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية” (يوحنا 7، 10). ذهب يسوع إذاً إلى أورشليم لكن بروح مختلف كثيراً عن الآخرين، بما أنه صعد “بالخفية”، دون السعي إلى التألق والشهرة كما كانوا يعتقدون (يوحنا 7، 4).

يرفض يسوع دائماً الظهور بروح علني صاخب، إلى درجة أن اليهود أنفسهم “كانوا يبحثون عنه في العيد” (يوحنا 7، 11) وليس هو، يسوع، من كان يسعى إلى الظهور، كما طلب منه “أخوته”. ألم يوصي رسله أن لا يقولوا لأحد بأنه المسيح؟ (متى 16، 20).

عن هذا المسيح المتكتم كلم الله إشعيا واصفاً إياه على هذا النحو: “ها عبدي الذي أسانده، والذي أخترته ورضيت به!… لا يصيح ولا يرفع صوته، ولا يسمع في الشارع صراخه” ليلقي الخطابات الإنتخابية ويعلن عن اسمه للعالم (إشعيا 42، 1 – 2). الذين عندهم عيون روحية لترى، هم وحدهم يستطيعون أن يفهموا أن يسوع هو المسيح، مختار الله: “من كان له أذنان فليسمع!”، كما كان يسوع يقول غالباً (لوقا 14، 35 / متى 13، 9).

مع ذلك، كان يسوع يرفع صوته في بعض الأحيان، لكن دائماً ليعلن عن حقائق روحية ويكون مسموعاً من الجميع. فيقول يوحنا: “وقف يسوع في آخر يوم من العيد وهو أعظم أيامه، فقال بأعلى صوته: إن عطش أحد، فليجيء إلي ليشرب. ومن آمن بي، كما قال الكتاب، تفيض من صدره أنهار ماء حي” (حزقيال 47، 1 – 13 / رؤيا 22، 2). وعنى بكلامه الروح الذي سيناله المؤمنون به” (يوحنا 4، 13 – 14).

لم يعد المسيح تلاميذه لا بامبراطورية على العالم، ولا بمجد دنيوي، بل بروح الله الذي يعيد الإنسان على صورة الله. العطاش إلى هذا الروح الذين يلجأون إليه لن يخيبوا أبداً.

ليس هذا هو الروح الإلهي الذي كان مواطنو يسوع يطلبونه؛ فهم لم يكونوا عطاشاً لهذا الماء بالذات. أمّا تلاميذه، بالمقابل، لم يريدوا أن يشربوا إلا من نبع الماء الحي الذي جاء المسيح ليجعله فيهم. القديس بولس، مثلاً، اعتبر شريعة موسى بلا قيمة نسبة إلى الإيمان بيسوع ويقول: “أنا من بني إسرائيل، من عشيرة بنيامين، عبراني من العبرانيين مختون في اليوم الثامن. أمّا في الشريعة (التوراة) فأنا فريسي، وفي الغيرة فأنا مضطهد من الكنيسة، وفي التقوى حسب الشريعة فأنا بلا لوم. ولكن ما كان لي من ربح، حسبته خسارة من أجل المسيح، بل أحسب كل شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة المسيح يسوع ربي. من أجله خسرت كل شيء وحسبت كل شيء نفاية لأربح المسيح…” (فيلبي 3، 5 – 8). بولس، الذي كان عطشاناً لروح يسوع، لم يخيب أمله. فقد كان شديد الوعي بالحصول عليه إذ أنه يقول: “وأظن أن روح الله في أنا أيضاً (كورنثوس الأولى 7، 40)… فنحن أهل الختان الحقيقي لأننا نعبد الله بالروح ونفتخر بالمسيح يسوع” (فيلبي3، 3). لو أن بولس كان مكتفياً بالشريعة، ولو لم يروي ظمأه من ماء يسوع لما قال هذا الكلام الذي عاشه.

بالنسبة لنا نحن الذين ندرس هذا الدرس الكتابي، هذا الكلام عن ماء الحياة الأبدية هو الأهم على الإطلاق؛ لأن هدف دراستنا هو أن يكون فينا نبع هذا الماء الذي وعد به يسوع. نحن إذاً معنيون ومهتمون بشكل مباشر وشخصي. لهذا يجب علينا أن نقوم بـ “امتحان روحي”، كما سبق أن نصحنا في بداية هذا المسار الروحي. فلنعلم إن كنا عطشى لماء يسوع، إن كنا قد شربنا منه، إن كانت قد “فاضت من صدرنا أنهار ماء حي” (يوحنا 7، 38). هل يمكننا أن نقول نحن أيضاً كما قال بولس: “أظن أن روح الله في أنا أيضاً”. أنفكر مثل الله؟ هل أنا كما يريدني أن أكون؟ إذا كان هذا هو الحال، إذاً طوبى لنا! طوبى لك! فدراستك لن تكون بلا جدوى .

فلنشكر المسيح الذي وهبنا حياته ليمنحنا هذا النعيم. علينا أن لا نسمح لأحد بأن ينتزع منا “هذا الكنز الذي نحمله في آنية من خزف (هشة، قابلة للكسر) لتكون تلك القدرة الفائقة لله لا من عندنا”، كما يقول بولس (كورنثوس الثانية 4، 7). فلنبقى مع الله وهو سيحمينا.

جدال بين يسوع واليهود (يوحنا 8، 12 – 59)

في هذه الجدال العنيف بين يسوع واليهود، يكشف يسوع أنه يتصرف دائماً “بما رأى عند الآب” و، في المقابل، اليهود الذين يرفضونه يتصرفون “بما سمعوا من أبيهم… الشيطان” (يوحنا 8، 38 – 44).

المغذى من كلام يسوع هو أن نتصرف كلنا – بوعي أو بدون وعي – وفقاً لما نراه في سر أنفسنا، أن نولد أفعالاً مستوحاة من الروح الذي نصغي إليه. إن كان قلبنا يميل نحو الله، نولد تصرفاً حسناً؛ لكن إن كان روح الشيطان هو الذي يجذبنا، فسنولد تصرفات شيطانية. إن أراد اليهود قتل يسوع، فذلك لأن “الشيطان أبيهم” قد ضللهم بروحه المهيمن وهم يرونه، بوعي أو لا، دون انقطاع.

والحال هو أن الإنسان يقتدي دائماً بما يرى ويعجب به. هذا الأب المجرم، الشيطان، “هو من البدء قاتلاً”، كما يعلن يسوع. ألم يغوي أبوي البشرية، ساعياً إلى قتل روحهما من خلال إبعادهما عن الله؟ الرسل تبعوا يسوع لأن الله هو ما يبحثون عنه لا شعورياً، إنه هو ما يرونه دون أن يعرفوا. هذا ما أرادهم المسيح أن يفهموه عندما قال لهم عشية آلامه: “لا يجيء أحد إلى الآب إلا بي… ومن الآن أنتم تعرفونه، ورأيتموه” (يوحنا 14، 7). في نفس هذه المناسبة أفشى لهم أيضاً أنهم من دون علمهم “كانوا يعرفون الروح المعزي لأنه يقيم معهم وكائن فيهم” (يوحنا 14، 17).

اليهود يريدون مسيحاً قومياً (يوحنا 10، 24)

تجمع اليهود حول يسوع وقالوا له: “إلى متى تبقينا حائرين؟ قل لنا بصراحة: هل أنت المسيح؟”. فأجابهم يسوع: “قلته لكم، لكنكم لا تصدقون”.

اليهود يطلبون إجابة، لا كي ينصاعوا للمتطلبات الإلهية الروحية، بل كي يحملوا يسوع للخضوع لمتطلباتهم السياسية، ليقود حركة عصيان مسلح ضد الإحتلال الروماني. كانوا يريدونه أن يفهم أنهم مستعدون للمعركة إن كان هو المسيح القومي. لم يكن عليه سوى أن يقول كلمة واحدة وسيحملون السلاح ويتبعونه.

نسي العالم اليهودي ما قاله النبي إشعيا عن المسيح: “روح الرب ينزل عليه… وينصف الظالمين بكلام (لا سيف) كالعصا، ويميت الأشرار بنفخة من شفتيه” (إشعيا 11، 2 – 4). لم يفوت يسوع أبداً أن يضرب بالكلمة العنف الإسرائيلي ليقتل خطيئة القومية. لكن المتعصبون رفضوا سماعه، مفضلين “أن يموتوا في خطيئتهم” (يوحنا 8، 21 – 24) بدلاً من أن يتخلوا عن طموحات الهيمنة السياسية، كما هو حال إسرائيليي القرن العشرين والواحد والعشرين الذين يفضلون الموت على أن يتخلوا عن حلمهم بـ “إسرائيل الكبرى”.

المعزي، الثالوث (يوحنا 14، 16 – 31)

يوحنا هو الوحيد الذي كلمنا بهذا القدر عن الروح القدس (يوحنا 15، 26 / 16، 7 – 15). إنه “المعزي” (باليونانية: “باراكليتوس”، وبالعبرية: “مناحيم”، يوحنا 14، 16 و 14، 26). هذا الروح سيسند الرسل وسيعزيهم بعد الرحيل المأساوي ليسوع: “سأطلب من الآب أن يعطيكم معزيا آخر (غيري أنا) يبقى معكم إلى الأبد… لن أترككم يتامى (من دوني) بل أرجع إليكم (بهذا المعزي)” (يوحنا 14، 16 – 18). لاحِظ أيضاً أن يسوع هو الذي “سيرجع إليهم” في هيأة الروح المعزي. يسوع وهذا الروح هما واحد إذاً، كما يسوع والآب هما واحد أيضاً. الآب، يسوع والروح هم واحد. هذا النص يكشف عن الثالوث الأقدس.

التعزية تأتي من واقع أن المسيح، بعد موته، يظهر – حصراً- “للذين يحبونه” (يوحنا 14، 21) ليعزيهم. لكن الرسل لم يفهموا هذا الكلام. كانوا لا زالوا يتخيلون أن يسوع هو الملك القومي لإسرائيل الذي سيظهر قريباً لليهود. لذلك سألوه: “كيف تظهر ذاتك لنا ولا تظهرها للعالم؟” وكان يسوع يبذل جهده، حتى اللحظة الأخيرة، ليشرح لهم أن الملكوت الذي ينتظرونه ليس كما يتصورون بل هو داخلي: “من أحبني سمع كلامي فأحبه أبي، ونجيء إليه ونقيم عنده” (يوحنا 14، 23). لم يكونوا بعد قادرين على فهم هذا البعد الداخلي. لم يكتب يوحنا كل ذلك إلا بعد وقت طويل، بعد أن فهم بنفسه المعنى العميق لهذا الكلام. كتب عندئذ لينير اليهومسيحيين الآخرين ليتمكنوا من تجاوز حدود اليهودية المزيفة التي تبعتها المميتة هي قومية لا يرغب بها الله. هذا الكلام يصح لبشر كل العصور… وخاصة الماديين.

تقديس اسم الله (يوحنا 17، 1 – 26)

يصلي يسوع بصوت مرتفع ليعطي إرشاداته الأخيرة قبل أن يترك الأرض:

1) الحياة الأبدية ترتكز على “معرفة الله ومسيحه”، أي أن نمتلك في داخلنا المفهوم الحقيقي لله، أن لا نتصوره بخلاف ما هو عليه. وحدهم المختارون يتعرفون على “صورة” الله هذه بيسوع، ويكون لهم نصيب في الحياة الأبدية من على هذه الأرض (يوحنا 17، 3). فيقول القديس بولس: “إذا كانت بشارتنا محجوبة، فهي محجوبة عن الهالكين، عن غير المؤمنين الذين أعمى إله هذا العالم بصائرهم حتى لا يشاهدوا النور الذي يضيء لهم، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله” (كورنثوس الثانية 4، 3 – 4). ذلك ينطبق اليوم على الذين لا يتوصلون إلى التعرف على وحش الرؤيا، على الذين يبقى كتاب رؤيا يوحنا مغلقاً بالنسبة لهم.

المطالبة بمسيح صهيوني تعني امتلاك صورة خادعة عن الله. عندما يطلب منا يسوع أن نصلي قائلين: “ليتقدس إسمك”، فهو يدعونا إلى تطهير مفاهيمنا عن الله ومخططاته للخلاص لصالح بني البشر. قذاراتنا تمنعنا من رؤية الذات الإلهية في طهارتها. عين حسيرة النظر ترى وجهاً مشوهاً، السوء ليس في الوجه، بل في العين التي تنظر إليه. “أيها الآب إشف عيني لأراك كما أنت. ليتقدس إسمك في، لا ليتشوه بضرارتي”. طلب يسوع من الأعمى قائلاً: “ماذا تريد أن أعمل لك؟” فأجابه: “أن أبصر، يا سيد”. فشفاه يسوع في الحال. يجب علينا، نحن أيضاً، أن نتقدم بهذا الطلب من المسيح بإيمان. لأن يسوع حي، وحي دائماً، ليستجيب لنا. نسمعه يقول لنا، في قلوبنا، ما قاله للأعمى: “أبصر، إيمانك شفاك!” (لوقا 18، 35 – 43). يقول يسوع إنه جاء ليعطي البصر، البصر الداخلي (يوحنا 9، 39 – 41).

“أظهرت اسمك لمن وهبتهم لي من العالم”، يقول يسوع للآب (يوحنا 17، 6). هذا الإسم لم يعد فقط اسم “يهوه”، كما أعلنه الله لموسى، بل حقيقة أكثر عمقاً ومثولية بالنسبة للإنسان، مكتوبة بأحرف من نار في حياته الحميمة: الله هو في قلب المؤمنين والجحيم هو قلب خالٍ من الله. الله هو السعادة الكاملة. من يعرف الله كما هو، ينعم بالسعادة الكاملة: “الله محبة”، يقول لنا يوحنا (يوحنا الأولى 4، 16)، و “من لا يحب (يسوع)، لا يعرف الله” (يعني لا يحبه)، يقول أيضاً يوحنا، لأن “الله أظهر محبته لنا بأن أرسل ابنه الأوحد إلى العالم لنحيا به” (يوحنا الأولى 4، 9). هذا هو “اسم” الله، الذي نتعرف به عليه : المحبة! والمحبة المتجسدة: المسيح! هذا الإسم المقدس، هو عار بالنسبة لكثيرين. أما للمؤمنين، فهو حياة أبدية. هذا هو الإسم الذي كشفه يسوع والذي هو وحده كان يقدر على كشفه.

لقد أظهر يسوع اسم الله وقال لنا بأنه “سيظهره أيضاً” (يوحنا 17، 26)، أي في المستقبل. هذا الكشف يتحقق فينا، حتى نهاية الزمان، “لتكون فيهم المحبة التي أحببتني بها، وأكون أنا فيهم”، يقول يسوع. على هذه المثولية الإلهية إذاً أن تكون كاملة في قلب المؤمنين ليصبحوا ممتلئين من الله. المسيح الحي أبداً سيستمر بتعليمهم المحبة، المحبة التي توحد وتتحد مع الآب.

الذين يبشرون بـ “تعالي” الله يملكون عنه صورة ضعيفة وخاطئة، غير مطابقة للإسم الذي كشفه يسوع: إسم “فينا”، ماثل للإنسان المؤمن، كونه محبة والمحبة لم تكن يوماً متفوقة. إسم الله هو “ماثل”.

2) “لا أطلب إليك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير” (يوحنا 17، 15). ليس علينا إذاً أن ننعزل عن العالم كما يفعل بعض الرهبان ورجال الدين. فهؤلاء، بغالبيتهم، يخافون من العالم ويخشون من مواجهة حقائق الحياة اليومية ومصاعب الشهادة ليسوع. إنهم يشبهون ذلك الخادم الجبان الذي خبأ وزنته الوحيدة تحت التراب، فاستحق بالتالي أن يطرحه سيده خارجاً في الظلام (متى 25، 24 – 30). نحن مدعوون إلى “التغلب على العالم” عارفين “أن الذي فينا (يسوع) أقوى من الذي في العالم (إبليس)” (يوحنا الأولى 4، 4). الرسل لم ينعزلوا أبداً.

إننا ببقائنا في العالم مستعينين بقوة الله سيكون باستطاعتنا أن نخلّص الناس الصالحين المضللين بخداع هذا العالم. أما الذين يعيشون في العالم، مثل يسوع، لكنهم يملكون عن الله المعرفة الحقيقية و “الإسم” الحقيقي، فلا يخشون “أن يخضعوا للتجربة”، بل سيكبحون أهواء الدنيا بالنضال بشجاعة، ويتغلبون على الشر، “وقوات الجحيم لن تقوى عليهم” (متى 16، 18). يجب أن يكون عندنا هذا الإيمان!

“مملكتي ليست من هذا العالم” (يوحنا 18، 33 – 36)

بيلاطس، وقد تملكه القلق، يطلب من يسوع إن كان ملك اليهود. أجابه يسوع: “مملكتي ليست من هذا العالم (لم يكن على بيلاطس إذاً أن يقلق ولا أن يعتقله). لو كانت مملكتي من هذا العالم، لدافع عني أتباعي (الرسل وكل التلاميذ) حتى لا أسلم إلى اليهود”. هكذا أجاب يسوع بيلاطس الذي كان يغمره القلق بكل وضوح، معتقداً أن يسوع قد أعلن نفسه ملكاً دنيوياً على إسرائيل بدلاً من هيرودوس، صديق الرومان. كان يريد أن يتأكد من أن يسوع لا يحضر ثورة مسلحة ضد رومة. تجدر ملاحظة قلق بيلاطس الذي ازداد عندما سمع أن يسوع ادعى أنه “ابن الله”: “لما سمع بيلاطس كلامهم اشتد خوفه…”، يقول يوحنا (يوحنا 19، 8). استفحلت أزمة الضمير هذه عند بيلاطس مع حلم زوجته كلوديا بروكولا النبوئي عن يسوع (متى 27، 19). وفقاً للتقاليد، تركت هذه المرأة زوجها بعد أن سلّم يسوع لليهود. كما أنها اعتنقت الديانة المسيحية فيما بعد.

من خلال إجابته، أراد يسوع أن يقول لبيلاطس إن مهمته ليست مقاومة رومة، وإلا لكان أمر كل أتباعه أن يثوروا على هيرودوس وقيصر وأن يقاتلوا بقوة السلاح “حتى لا يسلّم” إلى أعدائه. كل تلاميذه كانوا ينتظرون منه كلمة واحدة كي يثوروا. هذا ما كان يقلق بيلاطس.

رؤساء اليهود قدّموا يسوع إلى بيلاطس على أنه ثائر على الرومان. يقول لنا لوقا إنهم قادوا يسوع أمام بيلاطس وأخذوا عندئذٍٍٍٍ يتهمونه قائلين: “وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة (ضد رومة) في شعبنا، ويمنعه من دفع الجزية إلى القيصر، ويدعي أنه المسيح الملك” (لوقا 23، 1 – 2).

هذا الادعاء بالملك هو ما أقلق بيلاطس. لكنه عندما رأى أن يسوع لا يطمح إلى مملكة سياسية، أراد أن يحرره (لوقا 23، 13 – 16). “لكن اليهود صاحوا: إن أخليت سبيله فما أنت من أصدقاء قيصر، لأن من يدعي الملك يكون عدواً للقيصر!… لا ملك علينا إلا القيصر” (يوحنا 19، 12 – 15). فقط “عندئذ”، أي بعد هذا الإعلان عن سيادة القيصر الوحيدة، حتى قرر بيلاطس “أن يسلمه إليهم ليصلبوه”، كما يحدد يوحنا (يوحنا 19، 16). ممثل القيصر لم يكن يقوى على مقاومة التهديد بأن يكون متهماً بخيانة الإمبراطور وأنه يفضل يسوع، بعد أن قدم إليه كثائر متمرد على الإحتلال الروماني. ليكون تقياً، كان على بيلاطس “أن يجاهد” لدعم قضية يسوع العادلة حتى النهاية، مخاطراً بذلك بتحمل العار بين الناس ليستحق مجد السماء الأبدي.

تجدر في النهاية ملاحظة سوء نية رؤساء اليهود الذين “هيجوا الجمع ليختاروا إطلاق باراباس” ويدينوا يسوع (مرقس 15، 11). “وكان باراباس لصاً” (يوحنا 18، 40)، “سجينا شهيراً” (متى 27، 16)، اعتقل “مع جماعة من المتمردين ارتكبوا جريمة قتل أيام الفتنة (ضد الرومان)” (مرقس 15، 7). سوء نية اليهود تجلت في اختيارهم تحرير باراباس المناضل، وهو قومي إسرئيلي “شهير” في ذلك الوقت، وفي إدانة يسوع على أنه ناشط ثوري، بعد أن ألصقوا به تهمة باراباس.

لاحظ أن الرسل كانوا متسلحين بسيفين (لوقا 22، 38)، كانوا لا زالوا يؤمنون بالثورة على نظام الحكم القائم. عندما كلمهم يسوع عن المعركة الحاسمة التي كان عليهم أن يخوضوها، عنى بذلك المعركة الروحية التي سيواجهونها بعد صلبه: “أمّا الآن، فمن عنده مال فليأخذه، أو كيس فليحمله. ومن لا سيف عنده، فليبع ثوبه ويشتر سيفاً… وما جاء عني يجب أن يتم” (لوقا 22، 36). كان يسوع يتكلم عن سيف الكلمة، عن قوة الروح التي يجب على الرسل أن يتحلوا بها في مواجهة الأوقات الصعبة والمعارك الروحية التي ستحدث عندما “يتم كل ما جاء عنه”، أي موته القريب على الصليب. لكنهم لم يفهموا كلامه، بل اعتقدوا أن ساعة التمرد على هيرودوس والقيصر قد حانت. لذلك أجابوا على الفور: “يا رب! معنا هنا سيفان”. اغتاظ يسوع من لافهمهم وأجابهم: “كفى!” (لوقا 22، 35 – 38). لأنه، كما فهم بولس لاحقاً: “سيف الروح هو كلام الله” (أفسس 6، 17). كتاب الرؤيا يشرح بكل وضوح أنه، بالنسبة ليسوع، “السيف” هو الكلمة، وقدرة كلمة الحق: “في فمه سيف طالع مسنون الحدين” (رؤيا 1، 16)، “أقاتلهم بالسيف الذي في فمي” (رؤيا 2، 16).

في بستان الزيتون، عند القاء القبض على يسوع، “لما رأى التلاميذ ما يجري قالوا: أنضرب بالسيف، يا رب؟ وضرب واحد منهم خادم رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى”. تدخل يسوع ليمنع أتباعه من إنقاذه بالسيف وقال لرسله: ” كفى. لا تزيدوا (سيوفكم) !” (لوقا 22، 49 – 51). عندما لم يتلقوا أي أمر بالقتال، “عندئذٍ تركه التلاميذ (خائبي الظن) وهربوا” (متى 26، 56)، كما كان يسوع قد حذرهم: “تجيء ساعة، لا بل جاءت الآن، تتفرقون فيها، فيذهب كل واحد في سبيله وتتركوني وحدي” (يوحنا 16، 32).

يوحنا يبقى حتى عودة يسوع (يوحنا 21، 22)

“لو شئت أن يبقى (يوحنا) إلى أن أجيء، فماذا يعنيك؟…”

هذا الكلام كان موجهاً من يسوع إلى بطرس عن يوحنا “التلميذ الذي كان يحبه يسوع”، كما يحب يوحنا أن يعرّف بنفسه (يوحنا 21، 20). هذه الكلمات حملت التلاميذ على الاعتقاد أن عودة المسيح كانت وشيكة، وإنها كانت ستحدث بينما لا يزال يوحنا على قيد الحياة.

يتجلى هذا الإعتقاد في كلام بولس إلى أهل تسالونيكي: “نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب (يسوع)” (تسالونيكي الأولى 4، 15 / 4، 17).

كذلك، عندما رأى يوحنا نفسه عجوزاً وعلى مقربة من ترك هذا العالم (كان في الـ 95 من عمره عندما كتب إنجيله)، وبما أنه كان عارفاً أنه “شاع بين الأخوة أن هذا التلميذ لا يموت (قبل عودة يسوع)”، فسّر كلام المخلص قائلاً: “مع أن يسوع ما قال لبطرس أنه لا يموت، بل قال له: لو شئت أن يبقى إلى أن أجيء، فماذا يعنيك؟” (يوحنا 21، 23).

بولس الذي آمن هو أيضاً بعودة يسوع الوشيكة، تنبه إلى خطئه قبل أن يكتب يوحنا إنجيله. أيضاً في رسالته الثانية إلى أهل تسالونيكي، يصحح ما قاله في رسالته الأولى عن مجيء يسوع، فيقول لهم في هذا الخصوص: “لا تتزعزعوا سريعاً في أفكاركم ولا ترتعبوا من نبوءة أو قول أو رسالة كأنها منا تقول إن يوم الرب جاء. لا يخدعكم أحد بشكل من الأشكال، فيوم الرب لا يجيء إلا بعد أن يسود الكفر ويظهر رجل المعصية، والعدو الذي يرفع نفسه فوق كل ما يدعوه الناس إلهاً أو معبوداً، فيجلس في هيكل الله ويحاول أن يثبت أنه إله” (تسالونيكي الثانية 2، 1 – 4). هذا “العدو”، الذي يدعوه يوحنا “المسيح الدجال”، هو عدو يسوع المسيح (يوحنا الأولى 2، 22).

قبل عودة يسوع، في نهاية الأزمنة، أعطيت لنا علامة كبيرة كنقطة استدلال: ظهور المسيح الدجال، “الوحش” الذي يجب أن نتعرف إليه (رؤيا 13).

كتاب رؤيا يوحنا أعطي لنا لهذا الهدف. إنه يحوي الرؤى التي أعطيت ليوحنا لمساعدتنا على التعرف على هوية هذا العدو الرهيب الذي سيظهر قبيل عودة يسوع. بهذا المعنى يكون على يوحنا أن يبقى في العالم إلى أن يجيء يسوع. من خلال كتابه لا يزال يوحنا موجوداً في العالم ليحضر المؤمنين لهذه العودة لأنه، بفضل هذا الكتاب الخلاصي، نعرف أن المسيح الدجال قد ظهر في العالم. فعودة يسوع ليس إذاً ببعيدة.

هنا تنتهي دراسة إنجيل يوحنا ورسائله. ما قلته بخصوص هذه الرسائل الثلاث يكفي ليمكّنك من قراءتها دون أن تواجه أية نقاط غامضة تذكر.

اقرأ الآن إنجيل يوحنا ورسائله قبل أن تنتقل إلى دراسة الرسائل التي كتبها بعض الرسل.

رسائل بولس

كتب بولس 14 رسالة ليوثق إيمان المسيحيين الأوائل الذين بغالبيتهم كانوا يهومسيحيين. همه الأكبر كان تحذيرهم من خصومهم الذين كانوا يبذلون كل جهدهم كي يبعدوهم عن يسوع، هؤلاء اليهود الذين كانوا يقاومونه في كل مكان والذين كانوا يريدون أن يردّوا حديثي التنصر إلى ممارسة أعمال التوراة بالإستعانة بمختلف أنواع البراهين. لهذا السبب كتب بولس إلى الغلاطيين يقول لهم: “أيها الغلاطيون الأغبياء! من الذي سحر عقولكم… أسألكم سؤالاً واحداً: هل نلتم روح الله لأنكم تعملون بأحكام الشريعة (التوراة)، أم لأنكم تؤمنون بالبشارة (الإنجيل)؟” (غلاطية 3، 1 – 2). “عجيب أمركم! أبمثل هذه السرعة تتركون الذي دعاكم بنعمة المسيح وتتبعون بشارة أخرى؟ وما هناك بشارة أخرى، بل جماعة (اليهود الكافرين) تثير البلبلة بينكم وتحاول تغيير بشارة المسيح” (غلاطية 1، 6 – 7). هكذا يعمل الروح الشيطاني للمسيح الدجال.

علينا أن ندرس رسالتي بولس إلى الرومان وإلى الغلاطيين معاً لأنهما تعالجان نفس المشكلة: منع اليهومسيحيين من العودة إلى شعائر وأعمال الشريعة (التوراة) العديمة الجدوى: “واضح أن ما من أحد يتبرر عند الله بالشريعة (التوراة)، لأن البار بالإيمان (بيسوع لا بالشعائر) يحيا. ولكن الشريعة لا تقوم على الإيمان، لأن كل من عمل بهذه الوصايا يحيا بها. والمسيح حررنا من لعنة الشريعة…”(غلاطية 3، 11 – 13). في رسالته إلى الرومان يقول بولس أيضاً: ” نحن نعتقد أن الإنسان يتبرر بالإيمان، لا بالعمل بأحكام (أعمال) الشريعة (التوراة)” (رومة 3، 28). أدين بولس من قبل اليهود لأنه وصف التوراة بأنها لعنة. لكن ذلك برره ومجده أمام الآب ومسيحه.

هكذا إذاً، كل مجهود بولس كان أن يقنع هؤلاء اليهود الذين أصبحوا مسيحيين (المتعودين على ممارسة العبادة المفروضة في كتب الخروج، اللاويين، العدد والتثنية) بأن هذه الممارسات الشعائرية هي عقيمة للروح وبأنه وحده الإيمان بأن بيسوع هو المسيح، وهذا الإيمان فقط، دون ممارسة الشريعة (التوراة)، قادر أن يخلّصهم.

تستطيع في هذه المرحلة أن تقرأ الرسالة إلى الغلاطيين.

قبل قراءة الرسالة إلى الرومان، عليك أن تعرف أن بولس يوجهها إلى المسيحيين في رومة. والحال أن هؤلاء كانوا منقسمين إلى فريقين مختلفين و، للأسف، متخاصمين:

  1. فريق اليهومسيحيين المكون من اليهود الذي آمنوا بيسوع.
  2. فريق الوثنيين المسيحيين المكون من الوثنيين (أغلبهم من الرومان) الذين انضموا إلى تلاميذ المسيح.

كانت هاتان الطائفتان تحتقران أحداهما الأخرى. الأولى، المؤلفة من اليهود، كانت تعتبر أن الوثنيين غير جديرين بأن يكونوا في عداد شعب المؤمنين. اليهود الذين تبعوا يسوع كانوا يعتقدون أن المسيحية كانت لليهود وحدهم، لم يكونوا قد فهموا بعد البعد العالمي لرسالة يسوع. فيكتب لهم بولس قائلاً: “أفيكون الله إله اليهود وحدهم؟ أما هو إله سائر الأمم أيضاً؟ بلى، هو إله سائر الأمم. لأن الله واحد يبرر اليهود بالإيمان (بيسوع)، كما يبرر غير اليهود بالإيمان” (رومة 3، 29 – 30).

طائفة الوثنيين المسيحيين كانت تحتقر بدورها طائفة اليهومسيحيين، معتقدين – وهم على خطأ- أن على اليهود أن يستثنوا جملةً من شعب المؤمنين لأنهم رفضوا يسوع. فيناقضهم بولس قائلاً: “أنا نفسي من بني إسرائيل… ما نبذ الله شعبه… وفي الزمن الحاضر أيضاً بقية من الناس اختارهم الله بالنعمة (بالإيمان بيسوع). فإذا كان الإختيار بالنعمة، فما هو إذاً بالأعمال (شعائر التوراة)، وإلا لما بقيت النعمة نعمة” (رومة 11، 1 – 6). لا يجب إذاً إغلاق الباب بوجه هذه “البقية”، هؤلاء اليهود “المختارون”، لأنهم يؤمنون بيسوع. الحالة تكرر اليوم، لأن يهود كثيرون – مثل حركة “يهودي ليسوع”- تؤمن أن يسوع هو المسيح.

من خلال مثل هذه البراهين الصادقة، الحقيقية والسلمية، حاول بولس أن يوفق بين اليهومسيحيين والوثنيين المسيحيين، ويدعوهم “لأن يقبلوا بعضهم بعضاً لمجد الله كما قبلهم المسيح” (رومة 15، 7).

الإسرائيليون (الصهاينة) العصريون يفيدون من مثل هذه الآيات، في الرسالة ذاتها، ليجعلوا المسيحيين يقبلون بهم، وليخدعوهم بترجمة خاطئة لأقوال ونوايا بولس. بتصرفهم هذا، يطمح الصهاينة إلى الحصول على دعم العالم المسيحي لدولة إسرائيل. والحال أن أقوال بولس لا تتعلق لا بدولة اسرائيل ولا بالإسرائيليين في القرن العشرين والواحد والعشرين، بل بـ “هذه البقية المختارة” (رومة 11، 5) من بين اليهود، التي اختارها في الماضي، لإيمانها بيسوع. هذا الكلام الخير ينطبق أيضاً على اليهود في يومنا الذين سيؤمنون بيسوع. العبرانيون القوميون اليوم، من خلال رفضهم الإعتراف بأن يسوع هو المسيح، هم المسيح الدجال (يوحنا الأولى 2، 22) واليهود المزعومين الذين أدانهم يسوع (رؤيا 2، 9 و 3، 9).

لا يجدر بنا أن ننسى أيضاً أن بولس أعطى اليهود شرطاً للخلاص. فيقول بوضوح: “أمّا هم، فإذا توقفوا عن عدم إيمانهم (بيسوع) يطعّمهم الله (على شعبه)” (رومة 11، 23).

الذين يعتقدون أن بولس يدافع عن الإسرائيليين اليوم وعن دولة إسرائيل يجب أن يأخذوا بعين الإعتبار أن:

  1. بولس هو عبراني صار رسولاً ليسوع. أنه تخلى عن العبادة اليهودية للتوراة التي اعتبرها بلا قيمة، لا بل لعنة.
  2. بولس قاتل بضراوة منكري يسوع، وكان يعتبرهم أعداء الله والبشر، فيقول عنهم: “الذين قتلوا الرب يسوع والأنبياء واضطهدونا، والذين لا يرضون الله ويعادون جميع الناس…” (تسالونيكي الأولى 2، 15 – 16).
  3. يقول بولس بوضوح إن نتيجة استدلاله هي سقوط المؤيدين لدولة إسرائيل ونجاح الذين اختارهم يسوع: “فماذا بعد؟ ما كان يطلبه بنو اسرائيل (دولة امبريالية) ولا ينالونه، ناله الذين اختارهم الله (تلاميذ يسوع نالوا الروح القدس وبلغوا ملكوت الله)” (رومة 11، 7).

يختم بولس رسالته إلى الرومان بتحيات يوجهها إلى أعضاء الطائفتين، ليجمعهم، واحداً فواحداً، وليساعد على التقريب بينهما: بريسكلة وأكيلا هما من أصل يهودي (رومة 16، 3) ويأتي لوقا أيضاً على ذكرهما في أعمال 18، 1 – 2. ستقرأ أسماء الوثنيين المسيحيين الذين يذكرهم بولس، طالباً منهم جميعاً، هذه الوصية الأخيرة في المحبة: “ليسلم بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” (رومة 16، 16).

إقرأ الآن الرسالة إلى رومة، آخذا بعين الإعتبار أنها وجهت إلى هاتين الطائفتين لتوفق بينهما ولتوحدهما بمحبة المسيح يسوع، فتدعو الفريق الأول إلى الترفع فوق الإعتبارات الفريسية التي يدينها الله (راجع متى 5، 20) وتدعو الفريق الثاني بدوره إلى عدم الغرق في التمييز العنصري بإبعاد اليهود، تحديداً، عن إمكانية الإيمان بيسوع.

لأن بولس علم دوماً أن اليهود والوثنيين يمتزجون بيسوع: “فالمسيح هو سلامنا، جعل اليهود وغير اليهود شعباً واحداً وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى بجسده شريعة موسى (التوراة) بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين… إنساناً واحداً جديداً، ويصلح بينهما وبين الله بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسداً واحداً” (أفسس 2، 14 – 18).

عارفاً أن مهمته هي أن يحمل اسم الله والمسيح إلى الوثنيين (أعمال 9، 15)، أدرك بولس أن عليه أن يحارب بعنف استبداد اليهود الذين “منعوه من تبشير سائر الأمم بما فيه خلاصهم” (تسالونيكي الأولى 2، 16).

جميع رسائل بولس هي ثمرة كفاحه “ليبشر بابن الله بين الأمم (الوثنيين)” (غلاطية 1، 16). قدّر بولس نعمة تبشير غير اليهود “بما في المسيح من غنى لا حد له” (أفسس 3، 8)، “هذا السر الغني والمجيد عند غير اليهود (الوثنيين)” (كولوسي 1، 27)، فأصبح بولس “رسول غير اليهود” بلا منازع (غلاطية 2، 8)، كما أراده يسوع (أعمال 9، 15).

بما أنك فهمت هذه النقطة الأساسية عن بولس، تستطيع الآن أن تقرأ باقي رسائله.

رسائل بطرس، يعقوب ويهوذا سهلة الفهم. إقرأها.

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14
Copyright © 2024 Pierre2.net, Pierre2.org, All rights reserved.