انتقل إلى المحتوى

دراسة الكتاب المقدس

الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14

الدرس الثاني عشر – كتب العهد الجديد

cb_jesus-en-priere
يسوع يصلّي

كتب العهد الجديد عددها 27، بعضها لا يتجاوز بضعة أسطر (رسالة يوحنا الثانية، يوحنا الثالثة ويعقوب). لدراستها، سنقسمها كالآتي:

  • الدرس الثاني عشر: الأناجيل الأربعة المتوافقة وأعمال الرسل.
  • الدرس الثالث عشر: إنجيل يوحنا ورسائل الرسل.
  • الدرس الرابع عشر: كتاب الرؤيا الصغير.

الأناجيل المتوافقة وأعمال الرسل

تقديم الأناجيل المتوافقة

كلمة إنجيل تعني حرفياً “البشارة” (باليونانية، “Ev”: حلو أو طيب و”Angelos”: رسالة أو خبر). الإنجيل هو إذاً الإعلان عن “بشارة” مجيء المسيح المنتظر بظمأ شديد.

يوجد أربعة أناجيل: متى، مرقس، لوقا، ويوحنا. الثلاثة الأول يتشابهون بصورة أو بأخرى ويشكلون سيرة حياة يسوع. همّهم الكبير المشترك: إثبات أن يسوع هو فعلاً المسيح الذي ينتظره اليهود، مع أنه لم “يحرر إسرائيل” سياسياً (لوقا 24، 21) ولم “يعيد الملك (السياسي) في إسرائيل” (أعمال 1، 6). تشكل هذه النقطة وجهة النظر المشتركة بين هذه الأناجيل، ولهذا السبب ندعوها الأناجيل “المتوافقة”، في اليونانية “syn” تعني “نفس”، و”optikos” تعني “وجهة نظر”. هذه الأناجيل الثلاثة تقدم سيرة حياة يسوع البشرية. تلك هي وجهة نظرهم المشتركة. زيادة على ذلك، يشدد يوحنا في إنجيله على ألوهية يسوع.

سأتناول الأناجيل المتوافقة مع بعضها البعض، متخذاً إنجيل متى كقاعدة. إنطلاقاً من هذا الأخير، سأبين النقاط المشتركة بينه وبين مرقس ولوقا. لكن أولاً، سأقدم لك كل واحد من هؤلاء الإنجيليين الثلاثة على حدة. بعد الأناجيل المتوافقة، تأتي دراسة إنجيل يوحنا.

متى

إنه واحد من رسل المسيح الإثني عشر. يشير إلى نفسه في متى 9، 9 و 10، 3. إنه يهودي مكروه من اليهود لأنه “جابي ضرائب”، أي أنه كان يجبي الضرائب المالية المفروضة من الرومان. يأخذ من اليهود ليعطي الرومان. لكن عندما دعاه يسوع ليتبعه (متى9، 9)، لبى النداء على الفور، متخلياً عن كل شيء. كان مرقس ولوقا يناديانه باسمه اليهودي “ليفي” (مرقس 2، 13 – 14 / لوقا 5، 26 – 28).

متى هو أول من كتب سيرة يسوع. خصصها لليهود الذين اعتنقوا المسيحية؛ لهذا السبب كتب باللغة العبرية (الآرامية)، وغالباً ما كان يستند إلى نبوءات العهد القديم ليبرهن أن يسوع قد تمم كل ما جاء فيه (متى 1، 22 / 2، 5 – 6 / 2، 15 – 18 / 3، 3 / 4، 14 – 16 إلخ…). إنجيل متى هو الوحيد في العهد الجديد الذي كتب باللغة الآرامية، كل الباقين كتبوا باليونانية القديمة، اللغة العالمية في ذلك الوقت، والتي تعلمها الرسل ليبشروا.

مرقس

ليس من الرسل، لكنه انضم إليهم بعد قيامة يسوع (أعمال 12، 12). رافق بولس وكان له خير مساعد (أعمال 12، 25)، ثم تعلق ببطرس الذي اعتبره “كابن له” (بطرس الأولى 5، 13). كان كاتبه نوعاً ما. فبوحي من بطرس، كتب مرقس إنجيله الذي يعتبره البعض، بطريقة غير مباشرة، إنجيل بطرس. كثير من المعلقين الكتابيين يعتقدون أن “الشاب” الذي ذكره مرقس في (مرقس 14، 51 – 52) دون أن يسميه، ما هو إلا مرقس نفسه، لأن هذا التفصيل لا يستحق الذكر لو لم يكن الكاتب قد عاشه بنفسه.

لوقا

لوقا كان طبيباً وثنياً. تعرف على المسيح عن طريق بولس وأصبح رفيق سفره (كولوسي 4، 14) ومساعده الوفي، فيما تخلى عنه آخرون (تيموثاوس الثانية 4، 9 – 11). متأثراً ببولس، كتب لوقا إنجيله باليونانية إلى وجيه يدعى “ثاوفيلس” (لوقا 1، 3). إنجيله هو بطريقة غير مباشرة إنجيل بولس، بمقدار ما يعكس إنجيل مرقس تعاليم بطرس.

ستلاحظ أن لوقا كتب وهمّه أن يكون دقيقاً في الحقائق التي ينقلها إلى ثاوفيلس، “بعد أن يكون قد تتبع كل شيء من أصوله بتدقيق، كما نقلها إليه الذين كانوا من البدء شهود عيان وخداماً للكلمة” (العذراء مريم، بطرس، إلخ… لوقا 1، 2 – 3). لذلك هو الوحيد الذي أعطانا تفاصيل عن ولادة يوحنا المعمدان، عن بشارة مريم وطفولة يسوع (لوقا 1 و 2). هذا كله بسبب تربيته العلمية الطبية التي لا تترك شيئاً للصدفة.

كتب لوقا أيضاً كتاب أعمال الرسل الذي وجهه إلى النبيل “ثاوفيلس” (أعمال 1، 1) ليخبره قصة يسوع وتلاميذه بعد صعود يسوع إلى السماء (أعمال 1، 1 – 11). هكذا إذاً يمكننا أن نعتبر كتاب أعمال الرسل تكملة لإنجيل لوقا. أنصح بدراسته مع باقي الأناجيل المتوافقة، قبل إنجيل يوحنا.

الآن، وانطلاقاً من إنجيل متى، سنتآلف مع هذه الأناجيل الثلاثة الأول: المتوافقة.

اليهود، كما تعلم، كانوا يعرفون أن المسيح سيكون من سلالة داود. كذلك، يبادر متى إلى طمأنتهم محدداً أن يسوع هو من سلالة الملك داود. فيستهل إنجيله “بنسب يسوع، المسيح، ابن داود، ابن إبراهيم، إلخ…” (متى 1، 1). معظم الأسماء التي يذكرها متى موجودة في العهد القديم، خصوصاً أسماء ملوك اليهودية، من داود إلى السبي، حتى العودة من المنفى مع زربابل (متى 1، 12).

لوقا أيضاً يتكاّم عن سلالة نسب يسوع (لوقا 3، 23 – 38). لكن بدلاً من أن يعطي لائحة من إبراهيم إلى يسوع، كما فعل متى، بدأ بالعكس، من يسوع إلى إبراهيم ليصل إلى”آدم، ابن الله” (لوقا 3، 38). الإختلاف في أسماء الأسلاف يعود إلى أن يسوع هو ابن داود من “ناثان، ابن داود“، كما يقول لوقا (لوقا 3، 31)، لكن متى يقدمه كابن داود من سليمان، ابن داود (متى 1، 6 – 7). ستجد اسم ناتان في سفر الملوك الثاني 5، 14 وسفر أخبار الأيام الأول 3، 5، إنه أحد أبناء داود الذين ولدوا في أورشليم، وأكبر سناً من سليمان. أن يكون يسوع من سلالة هذا أو ذاك، لا يهم، المهم هو أنه من “سلالة وابن داود”. لاحظ، من جهة أخرى، أن لوقا، في سبيل توخي الدقة في معلوماته، يقول إن يسوع “هو على ما يظن ابن يوسف بن عالي…” (لوقا 3، 23). عبارة “على ما يظن” هذه تشكل فارقاً مهماً وتدعونا إلى تخطي سلالة النسب البشرية الدقيقة للأسماء. يسوع هو، قبل كل شيء، ابن الله!

هذا الفارق يدعونا فوق كل ذلك إلى عدم التوقف على نسب الدم، بل إلى أن نعلو، كما فعل يوحنا في إنجيله، إلى النسب الإلهي ليسوع بقوله: “في البدء كان الكلمة (يسوع) والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله (يوحنا 1، 1)… والكلمة صار جسداً وحل بيننا…” (يوحنا 1، 14). أهمية هذا النسب الأخير تحجب كلياً النسب الأول، فيدعونا يسوع بنفسه إلى النظر إليها ملياً بقوله إلى اليهود: “كيف المسيح هو ابن داود حيث أن داود يدعوه رباً ؟” (متى 22، 41 – 46 / المزامير 110، 1).

يتمسك بعض اليهود بهذا النص ليدّعوا بأن يسوع “يعترف” بأنه ليس ابن داود. هذا خطأ! لأن يسوع لا يقول إنه ليس كذلك أيضاً، بل أنه أكثر من ذلك كونه “ابن الله الوحيد“، الوحيد الذي ولده الله عجائبياً في هذا العالم، بأحشاء امرأة وهي بعد عذراء، من دون تدخل أي رجل. وخاصة أن يسوع كان كائناً حتى قبل أن يتجسد.

لقد أطلت الكلام قليلاً حول موضوع نسب يسوع، لأن بعض الضعفاء والغير ناضجين في الإيمان، والكثيرين من أعداء الإنجيل، يتذرعون “بالتباين” بين سلسلة نسب متى وسلسلة نسب لوقا ليزعموا زيف الأناجيل، ببرهان “التضارب” بين هذين الأنجيلين حول هذه النقطة. هذا نقد سطحي يلجاء إليه أناس غير قادرين على الغوص في العمق. عليك بأي حال أن تكون على علم ومنتبهاً.

في هذه المرحلة، يمكنك قراءة النصوص حول سلسلة نسب يسوع في متى ولوقا بالإضافة إلى باقي النصوص المذكورة. لكن لا تباشر بقراءة الأناجيل كاملة قبل دراسة توضيحاتي.

سأبين في إنجيل متّى النقاط التي تستوجب توضيحاً أكثر من غيرها.

تحضير يسوع

قبل بدء رسالته، ابتعد يسوع وحيداً إلى الصحراء. هذه الخلوة هي مرحلة انتقالية بين حياته كنجار – حياة اندماج اجتماعي وعام مشترك لجميع الناس – وحياته كمسيح عليه أن يظهر شخصية جديدة غير معروفة وغير مشكوك فيها من محيطه. لينهض بهذا الحمل الكبير والثقيل – وليهيء المجتمع ليدرك ذلك – كان عليه أن يتحرر من الحياة اليومية، المهنية والروتينية. لهذا السبب كتب متّى والإنجيليون الآخرون يقولون إن “الروح (روح الله) قاد يسوع إلى الصحراء” (متى 4، 1 / مرقس 1، 12 / لوقا 4، 1).

على كل رسول أن يعرف، بطريقة أو بأخرى، هذا الانقطاع المؤقت عن المجتمع والاختلاء الروحي ليكتشف ويفهم دعوة الله قبل تولي رسالته.

يتدخل الشيطان دائماً ليعكر صفو هذه الخلوة ويمنع النفس من التوصل إلى إدراك الله. يصم الأذان بضجيجه المصطنع ويعمي البصيرة. كذلك، قبل أن نخدم الله، علينا أن نتغلب على عدوه، الشيطان، الذي هو أيضاً عدو أحباء الله.

“الشيطان يجرب” يسوع في ثلاث نقاط:

التصرف بناءً على طلب الشيطان، لا الله

“مر أن تصير هذه الحجارة خبزاً”، طلب منه إبليس (متى 4، 3 – 4). يقدر يسوع أن يصنع هذه المعجزة، لكنه لا يريد أن يتصرف بناءً على طلب الشيطان، بل وفقاً للمخطط الإلهي، وعندما تحين ساعة الله. في تلك اللحظة سيكثّر أرغفة الخبز والسمك ليطعم الناس في الصحراء (متى 14، 13 – 21). علينا أن نرفض القيام بأي عمل، حتى ولو بدا جيداً في الظاهر، إن لم يكن بوحي من الروح الإلهي. إنه تعليم للذين يمعنون بممارسة السحر “الأسود” أو “الأبيض” كما يزعمون.

cb_carte-palestine-temps-jesus_ar
خارطة فلسطين في زمن يسوع

عدم تجربة الله

“إن كنت ابن الله فألقِ بنفسك إلى الأسفل…”، يقول له الشيطان من جديد (متى 4، 5 – 6). “لا تجرّب الرب إلهك”، أجاب يسوع. إن كانت عندنا ثقة بالله، فلا يجب، بالمقابل، إستغلال هذه الثقة. امتحان الله سيكون بمثابة تحدّ له. الله لا يتأثر بالإبتزاز. كثيرون يعتقدون أنهم مختارون من الله ويسمحون لأنفسهم بتجاوزات يدينها الله. مثلاً: الله يرفض مملكة إسرائيلية، لكن الإسرائيليون يصرون على إقامتها مستمرين بإعلان أنفسهم “شعب الله المختار”. إنهم يعيشون في الوهم المطلق. بإنشائهم هذه المملكة السياسية – بعكس إرادة الله- لن ينالوا بركته. لا نستطيع أن نرغم يد الله ولا أن نضعه أمام أمر واقع. لو سمع يسوع كلام إبليس ورمى بنفسه، لكان الله تركه يقع، حتى لو أنه: “يأمر ملائكته فيحملونه على أيديهم…”، لأن هذا السقوط كان بوحي من الشيطان، لا من الله. من ناحية أخرى، تدعونا هذه الآية لوضع كامل ثقتنا بالله في المحن – التي يسمح هو بها- التي ترهقنا. لكن الله لا يساعدنا في طيشنا الذي يدفعنا لنثبت للآخرين، بغرور، أن الله سيحمينا وأنه في خدمتنا. في هذه الحالة يتخلى الله عنا. شخص يقود بجنون بسرعة 200 كلم/س بذريعة أن الله يحميه، سيخيب ظنه. لأنه لا يجب أن نجرب الله، بل أن نتحلى بفضائل الفطنة والحكمة إلخ. في هذه الحال الرب يحمينا.

ملكوت الله هو داخلي

“إن سجدت لي وعبدتني أعطيك كل هذه الممالك”، قال إبليس ليسوع (متى 4، 8 – 11). إنها الأمبراطورية الصهيونية التي يعرضها الشيطان على يسوع، السلطان السياسي، الذي يطمح إليه الإسرائيليون. يسوع ليس مغفلاً؛ إنه يرفضها. مملكته ليست من هذا العالم، إنها داخلية، في القلوب (يوحنا 18، 36 / لوقا 17، 20). يذهب الشيطان منهزماً دون أن يستطيع مقاومة أمر المسيح له: “إبتعد عني يا شيطان!” (متى 4، 10). هذا يعني أن يسوع سمح للشيطان أن يجربه من أجل حكمة عميقة، وهي أن يعلمنا كيف نتعامل مع هذا الشرير.

يذهب الشيطان، لكن، كما يحدد لوقا، “ليعود بعد حين” (لوقا 4، 13). هذه العودة للشيطان حصلت من خلال اليهود الذين أرادوا أن يتوجوه ملكاً صهيونياً عليهم، بالقوة، كما يخبرنا يوحنا: “عرف يسوع أنهم يستعدون لإختطافه (بالقوة) وجعله ملكاً، فابتعد عنهم ورجع وحده إلى الجبل” (يوحنا 6، 14 – 15). من جديد رفض يسوع أن يكون ملكاً على الإمبراطورية الإسرائيلية التي سبق أن عرضها عليه الشيطان.

عندما نختار ملكوت الله، علينا دائماً أن نستعد للتجارب التي سيفرضها علينا الشيطان وعشاق مملكة الأرض. “إن أردت خدمة الرب فاستعد يا ابني للتجربة كن حازماً مستقيم القلب ولا تتسرع وقت الصعاب” (يشوع بن سيراخ 2، 1 – 2). هذا ما يعلّمنا إياه يسوع عملياً من خلال التجربة التي شاء أن يخضع نفسه لها، لأجلنا. “وبعدما جربه إبليس بكل تجربة… رجع يسوع إلى الجليل (منتصراً) وهو ممتلىء بقوة من الروح القدس” (لوقا 4، 13 – 14). بهذه القوة الروحية الإلهية يبدأ يسوع رسالته. علينا أن نتجنب نحن أيضاً أن نتصرف أو نتورط من دون أن نتأكد من عون الله الضروري. كما يجب علينا أن نعرف أن نتبين روح الله فينا، هذه نعمة يجب أن نطلبها. يجب أن يكون الروح القدس فينا، فهو الكنز الروحي الأول الذي يوصينا يسوع أن نطلبه من أبينا السماوي (لوقا 11، 13 / متى 7، 11).

يسوع يبدأ رسالته: خطاب بداية العهد: (متى 5، 1 / 7، 29)

لم يبدأ يسوع رسالته في الناصرة، مدينته الأم، بل أبعد قليلاً، في كفرناحوم، حيث استقر (متى 4، 12). إنها مدينة بطرس والرسل الأوائل، كلهم صيادون من جوار بحيرة طبريا التي تقع على ضفافها الشمالية مدينة كفرناحوم (راجع الخريطة). أصبحت هذه المدينة مركز إشعاعه. عجائب يسوع جعلته معروفاً في كل تلك المنطقة (متى 4، 23 – 25). كان ذلك إتمام نبوءات إشعيا الذي أشار إلى أرض زبولون ونفتالي (الجليل) كمركز منه سيتدفق النور اللإلهي العظيم (إشعيا 8، 23 / 9، 1).

كانت الجموع تلحق بيسوع الذي انتهز الفرصة ليلقي خطابه الافتتاحي الكبير المعروف بخطاب “عظة الجبل” الذي يحتوي على تعاليم ثورية بالنسبة للمجتمع اليهودي في ذلك العصر. خطاب ثوري لأنه ضد الصهيونية والعرقية، كونه لخلاص جميع البشر، لا اليهود وحدهم.

يحدد لوقا أن يسوع يتوجه لليهود الذين أتوا لسماعه: “ولكني أقول لكم أيها السامعون (اليهود): أحبوا أعداءكم…” (لوقا 6، 27). يسوع كان يعرف أن الذين كانوا يسمعونه هم كلهم من اليهود الصهاينة الذين يعتقدون بأن كل غير يهودي هو عدو عليهم أن يكرهوه. فأراد أن يكسر هذا الغيتو النفسي الذي كان مستمعوه منحبسين فيه منذ قرون طويلة، لذلك قال لهم: “لقد تعلمتم إنه قد قيل: أحب قريبك (اليهودي مثلك) واحقد على أعدائك (الغير يهود: لاويين 19، 17 – 18 / التثنية 15، 3). أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم (الذين أنتم تعتبرونهم كذلك)، صلوا لأجل المسيئين إليكم” (إنهم لا يسيئوا إليكم، بل يدافعون عن أنفسهم ضد شروركم. فكر بالفلسطينيين الذين يضطهدهم الإسرائيليون ويعتبرونهم “إرهابيين”). كان يسوع سيقول لليهود المعاصرين: “صلوا لأعدائكم الفلسطينيين، كونوا طيبين معهم، أعطوهم خدكم الآخر إن صفعوكم، لأنهم هم الذين على حق. أعطوهم الأرض التي يطلبون لأنها ملكهم”. إحفظ جيداً أن يسوع كان يخاطب الصهاينة الظالمين: ” أقول لكم أيها السامعون…”

“إن كانت تقواكم (عدالتكم) لا تفوق تقوى (عدالة) معلمي الشريعة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت الله”، يقول لهم أيضاً يسوع، لأن هذه “التقوى” المزعومة هي عرقية وتفضل اليهودي، مع كل أخطائه، على الغير يهودي البريء (متى 5، 20). يمكننا اليوم أن نعيد صياغة الجملة بالطريقة التالية: “أيها الناس، إن كانت تقواكم (عدالتكم) لا تفوق تقوى (عدالة) علماء ورجال الدين، لن تستطيعوا الاقتراب من الله، مهما كان إيمانكم”… “إذا ما أحببتم العادل أكان يهودياً، مسيحياً أو مسلماً، شرقياً أو غربياً، من الشمال أو من الجنوب، فباطل هو إيمانكم”.

كان اليهود يكرهون السامريين. لهذا السبب أعطى يسوع مثل “السامري الصالح” (لوقا 10، 29). أعطى هذا المثل لأحد علماء الشريعة الذي، وهنا تجدر الملاحظة، “أراد أن يبرر نفسه” لأنه لم يكن مستعداً لمساعدة إنسان غير يهودي، لأنه ليس قريبه. عالم الشريعة اليهودي هذا، لا يعمل الخير إلا وفق الشريعة اليهودية العنصرية: يجب تخطي هذه الشريعة اللاإنسانية إن أردنا الدخول عند الله.

بتعاليمه هذه، “لا يبطل يسوع الشريعة (التوراة)، بل يكملها، بالعكس، بشريعة المحبة” التي أساء اليهود فهمها. “ما جئت لأبطل بل لأكمل” قال يسوع. أتى ليتمم (متى 5، 17 – 20). ليس فقط “لا تقتل”، بل “لا تشتم” أخيك (متى 5، 21 – 26). وأخيك هو كل إنسان عادل. أنت أيضاً، كن عادلاً وقادراً على فهم هذه الحقيقة النبيلة.

بالنسبة لليهود، كما بالنسبة لكثير من المؤمنين اليوم أيضاً، الخطيئة هي بإتمام الفعل عملياً. في حين أن يسوع يأتي ليقلب هذه المعادلة: الشر موجود مسبقاً في النية لإتمام الفعل: “من نظر إلى إمرأة ليشتهيها، زنى بها في قلبه” (متى 5، 27 – 28). ليس من الخطأ بالنسبة للمرء أن ينظر، بل أن ينظر بشهوة ويعمل للوصول إلى غايته. عندئذٍ، حتى لو لم يتمم الفعل، تكون الخطيئة قد تمت فيه. إن خططت لسرقة شيء ما، لكنني لم أتوصل إلى إتمام السرقة لسبب أو لآخر، فذلك يعتبر كعمل سيء قد حصل في ضميري. كما أن ملكوت الله هو فينا، كذلك الشر هو فينا.

تلك هي التعاليم الأكثر حاجة إلى توضيح في “عظة الجبل”. أما الباقي فهو سهل الفهم.

إحفظ أيضاً أن “إعطاء الخد الآخر للذي يصفعك”، هي وصية موجهة إلى الظالمين ولا تعني أن على الصادقين والأبرياء أن يكونوا ضعفاء أمام الظلم. يجب أن تعرف كيف تدافع عن نفسك، الدفاع المشروع هو واجب، بالأخص عندما يتوجب عليك حماية عائلتك، أطفالك وحياتك الخاصة أمام مجرم معتدٍ. متكلماً عن المسيح الدجال، يحثنا كتاب الرؤيا على أن “نعامله بمثل ما عاملنا”، لا بل أن “نضاعف له” جزاء أعماله (رؤيا 18، 6 – 7).

أدعوك، بالمناسبة، أن تتأمل بموقف يسوع من أحد الحراس الذي صفعه عند اعتقاله (يوحنا 18، 19 – 23)، يسوع لم يقدّم خده الآخر، بل طلب تفسيراً من الذي صفعه بغير حق. يجب أن نحافظ على كرامتنا وعزة نفسنا أمام الظلم الجائر، هذا أيضاً تواضع وشهامة. أمّا في ما يخص موقف إعطاء الخد الآخر، فيجب أن يكون خد الذي اقترف الظلم تجاه من ينسب إليه الظلم. يجب على المذنب أن يتواضع ويعترف بذنبه، أن يكفّر عن خطاياه، وأن يكون ممتناً للذين يوبخونه ويصفعونه بكلمة الحق لتقويمه.

يسوع ويوحنا المعمدان: (متى 11، 1 – 15)

كما سبق أن شرحت، لقد تنبأ النبي ملاخي بمجيء يوحنا المعمدان “ليهيء الطريق أمام المسيح” (ملاخي 3، 1). يسوع نفسه يستند إلى هذه النبوءة (متى 11، 10). هذا البشير للمسيح كان عليه، وفقاً للمفهوم الإسرائيلي، أن يحضّر اليهود لمجيء المسيح الذي سيعيد الملك لإسرائيل، ويقيم مملكة سياسية من سلالة داود. حتى يوحنا المعمدان نفسه لم يكن يفهم أن مملكة المسيح روحية وشاملة. يروي متى أن ” يوحنا المعمدان سمع في سجنه بأعمال المسيح” (متى 11، 2). بينما أعماله لم تكن سياسية بأي شكل من الأشكال، لا تجمع مسلح للإطاحة بعرش هيرودس الذي لم يكن من سلالة داود، ولا صرخة مقاومة عنيفة ضد الرومان كما كان يريد الزيلاطيون (حزب يهودي متدين متعصب كان ينتمي إليه الرسول سمعان الوطني: متى 10، 4)، بل لمغفرة الخطايا وشفاء المرضى وعطف على ضباط الرومان الذين أعجب يسوع بإيمانهم الحار حتى أنه قال عنهم: “لم أجد مثل هذا الإيمان عند أحد في إسرائيل” (متى 8، 5 – 13).

كان يوحنا المعمدان، في سجنه، ينتظر أن يطلق يسوع سراحه بعصيان ثوري. والحال أن “أعمال” يسوع، الغير قومية، أذهلته وأثارت إستنكار الكثير من اليهود الآخرين. البشير المسجون يرسل بعضاً من تلاميذه ليطلبوا من يسوع: “هل أنت هو الذي يجيء (المسيح “القومي”) أو ننتظر آخر؟” (متى 11، 3). كان على هذا السؤال أن يزعج تلاميذ يوحنا المعمدان، الذين هم بدورهم أزعجوا معلمهم. كانوا يثقون به، فقد قال لهم أن المسيح المنتظر هو يسوع الذي : “ما هو أهل لأن يحمل حذاءه” (متى 3، 11). فتساءلوا لماذا هذا المسيح لا يعمل لتجديد الملك في إسرائيل؟ ماذا ينتظر؟ لماذا هو حنون مع الرومان ويزور الوثنيين ليشفي المرضى، كالجدريين (متى 8، 28 – 34) والصيدونيين (متى 15، 21 – 28) ؟ كل ذلك كان يشكل صدمة لليهود المتعصبين.

إجابة يسوع لرسل يوحنا المعمدان تهدف إلى تحطيم الروح القومي والمتعصب في قلوب اليهود الصالحين الذين ضللتهم الصهيونية: “إرجعوا وأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون: العميان يبصرون،…إلخ… (كما تنبأ إشعيا 35، 5 / 29، 18)… والمساكين (وليس الأغنياء الذين يعتقدون أنهم مميزون: إشعيا 61، 1) يتلقون البشارة (مجيء المسيح) وهنيئاً لمن لا يفقد إيمانه بي (بعدم كوني قومي متطرف أنا أيضاً)” (متى 11، 4 – 6). هذه الإجابة أربكت رسل يوحنا.

يسوع، بتأكيده على أن يوحنا المعمدان هو نبي، و “أنه ما ظهر في الناس أعظم من يوحنا المعمدان” (متى 11، 9 – 11)، يدعو سامعيه إلى الإيمان بشهادة هذا النبي الذي يعتبر نفسه “غير جدير بأن يحمل حذاء يسوع” (متى 3، 11). يدعوهم يسوع إلى الإيمان بأنه حقاً المسيح المنتظر، حتى لو وجدوا أعماله اللاسياسية غير مألوفة. بالمقابل، يسرع المسيح إلى التوضيح بأن يوحنا المعمدان، بالرغم من عظمته، “أصغر الذين في ملكوت السماوات هم أعظم منه” (متى 11، 11). السبب؟ هو أن أصغر الذين في ملكوت السماوات (لا مملكة إسرائيل) فهم أن يسوع هو ملك، لا على كيان سياسي، بل على حياة روحية داخلية، غير قومية، كما كان يعتقد، عن حسن نية، يوحنا المعمدان العظيم ورسل يسوع أنفسهم في البداية.

يوحنا المعمدان يدين بعظمته أيضاً إلى كونه يختتم حقبة فكرة المسيح القومي: “لأن جميع الأنبياء تنبأوا إلى يوحنا” (حتى يشهد للمسيح، يسوع، اللاعسكري واللاسياسي بعكس أرييل شارون، إسحق شامير وشمعون بيريز في يومنا). لكن، انطلاقاًً من يوحنا المعمدان يبدأ مفهوم جديد للمسيحية: “فمن أيام يوحنا المعمدان إلى اليوم، والناس يبذلون جهدهم لدخول ملكوت السماوات، والمجاهدون يدخلونه” (متى 11، 12 – 13). لماذا؟ لأنه كان يجب على اليهود أن يجاهدوا، أن يبذلوا قصاراهم ليتحرروا من التعصب والأفكار القديمة، ومن ميراث فكري كامل صاغ وشوه مفهومهم للمسيحية. فتركوا أنفسهم ينقادون جماعياً إلى انتظار مسيح صهيوني على الرغم من تحذيرات الأنبياء العديدة والمتكررة، ورفض الله وصموئيل الصريح لملك إسرائيلي.
إنه لمن الصعب التخلص من الذهنية القومية. مع ذلك، إن كنا نريد أن نكون جزءاً من ملكوت الله، كما يريده الله، علينا أن نبذل جهدنا، وأن نتخلى عن كل فكرة سياسية نكونها. اليهود المقيدون بفكرة الدولة الإسرائيلية، المسيحيون الذين يؤمنون بدولة الفاتيكان (التي تزعم أنها مسيحية لكنها أصبحت سياسية) والمسلمون الذين يجاهدون لإقامة ممالك وجمهوريات إسلامية، يجب عليهم جميعاً، اليوم، أن “يبذلوا جهدهم” ليتحرروا من قيود هذه الأفكار الإنحرافية إن كانوا يريدون الدخول إلى ملكوت السماوات الروحي.

على صعيد الحياة اليومية والشخصية، علينا في أغلب الأحيان أن نستدرك أنفسنا وأن “نبذل الجهد” للخروج من التراخي الذي يشلنا وأن نقاوم بالتالي التيار المادي الذي يجر الضعفاء. هؤلاء الأخيرون يتبعون الأغلبية دون تفكير ومن دون أن تكون عندهم القدرة على أن يختاروا بحرية حياة شخصية، مختلفة عن حياة الآخرين، لكنها أكثر فائدة للقلب والروح.

يوحنا المعمدان هو باختصار “إيليا المنتظر”، كما يوضح يسوع (متى 11، 14 / 17، 11 – 13). لقد شرحت أن على السابق ليسوع أن يظهر للعالم “بروح إيليا وقوته” (لوقا 1، 17). يجب إذاً أن نفسر نبوءة ملاخي 3، 23 بحسب الروح، لا بحسب الحرف، كما يفعل الذين ينتظرون عودة إيليا بشخصه، وتجسده ثانية. هذا ما قصده يوحنا بقوله إنه ليس إيليا (يوحنا 1، 21).

نقطة هامة علينا أن نفهمها جيداً: لقد ترك يوحنا المعمدان أثراً عميقاً عند اليهود، إلى حد أنهم اعتقدوا بأنه هو المسيح. لهذا السبب لم يفوّت هذا البشير الفرصة ليشدد على أنه ليس المسيح: “ما أنا المسيح” (يوحنا 1، 20). “كيف تعمد وما أنت المسيح ولا إيليا ولا النبي؟”، سأله الفريسيون (يوحنا 1، 25). فأجابهم: “أنا أعمّد بالماء من أجل التوبة وبينكم من لا تعرفونه، هو الذي يجيء بعدي، ويكون أعظم مني… هو يعمدكم بالروح القدس والنار” (يوحنا 1، 26 / متى 3، 11).

معمودية يوحنا إذاً هي تمهيد، دعوة للتوبة. معمودية يسوع تمنح النعمة والغفران اللذان لا يقدر يوحنا أن يمنحهما. لهذا السبب معمودية يسوع هي أقوى من معمودية بشيره. ليمنحها، عليه أن يكون قد وقع على قلب تائب. يدعو يوحنا إذاً للتوبة من خلال معمودية الماء التي لن يكون لها أي مبرر بعد مجيء المسيح الذي يقيم في العالم معمودية جديدة لجميع البشر التائبين والذين قرروا أن يتغيروا نحو الأفضل.

كثير من الحجاج اليهود كانوا يأتون إلى أورشليم في الأعياد الدينية. عدد منهم، اليهود الذين جاءوا من أفسس، قابلوا يوحنا المعمدان و، متأثرين به، اعترفوا بأهمية معموديته. تعمدوا إذاً على يده ومن ثم عادوا إلى ديارهم. شكلت هذه الفئة من اليهود نواة المسيحيين الأوائل. زارهم الرسل وفسروا لهم عدم كفاية معمودية يوحنا وأهمية معمودية يسوع: “فلما سمعوا هذا الكلام، تعمدوا باسم الرب يسوع… فنزل عليهم الروح القدس” (أعمال 19، 1 – 7). مع كتاب الرؤيا، في زمننا، ينتقل مفهوم المعمودية إلى مستوى أعلى، إلى المستوى الروحي.

كيف فهم الرسل المسيح (متى 16)

الرسل – مثل كل المجتمع اليهودي في الأمس واليوم- لم يكونوا يتوقعوا على الإطلاق المسيح الذي رأوه في يسوع. لقد استوجب الأمر تربية عميقة وكثير من الفطنة والبراعة من قبل نجار الناصرة لإدخال مفهوم المسيح الوضيع والمتواضع، الروحي والعالمي في الذهنية اليهودية المسيسة إلى حد كبير.

لقد قدم يسوع ملكوته لتلاميذه بأشكال مختلفة. هذا الملكوت الغير دنيوي، المفتوح لجميع البشر، الذي جاء هذا النجار الشاب والمتواضع ليقيمه. يكلمهم يسوع عن هذا الملكوت الذي كانوا يعتقدونه سياسياً فيقول: “ولا يقال: ها هو هنا، أو ها هو هناك، لأن ملكوت الله هو فيكم” (لوقا 17، 21)، لا يجب إذاً أن نبحث عنه خارجاً، في مكان جغرافي، في أورشليم أو في السامرة. وأيضاً: “سيجيء الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، ويجلسون إلى المائدة في ملكوت الله” (لوقا 13، 29). لن يكون اليهود وحدهم في هذا الملكوت لأن “الأولون (اليهود) يصيروا آخرين والآخرون (الوثنيون الذين آمنوا بعد اليهود) يصيروا أولين” (لوقا 13، 30 / متى 19، 30). المسيحية التي فسرها يسوع كانت غير واردة بالنسبة لليهود المشربين بفكرة القومية والوطنية. اليوم أيضاً، إن مجرد التفكير بمثل هكذا مسيحية لا يمكن أن يخطر على بال الإسرائيليين.

بعد سنتين من المعاشرة والتحضير لرسله، وسنة قبل أن يسلم للصلب، يفحص يسوع رسله. لقد شاهدوا أعماله العجائبية، لكن هل فهموا تعاليمه وخفايا تلميحاته؟ كان عليهم أن يفهموا أمرين:

1- أن يسوع، تحت هذا المظهر المتواضع، هو المسيح المنتظر.

2- أن مهمة المسيح ليست إعادة تأسيس دولة إسرائيل، خلافاً لكل توقعاتهم. كان على المسيح أن يثبّت رسله بالإيمان الكامل به حتى لا ينكروه بعد “هزيمته” على الصليب، وليواظبوا على هذا الإيمان بالرغم من عدم إعادته تأسيس مملكة إسرائيل (مراجعة لوقا 24، 21 و أعمال 1، 6).

يطلب يسوع إذاً من تلاميذه، قبل عام من مقتله: “من أنا في رأيكم أنتم؟” فأجابه بطرس: “أنت المسيح ابن الله الحي” (متى 16، 15 – 20). أثنى يسوع على رسوله، إذ أن بطرس، على الرغم من مظاهر الفقر، عرف أن يسوع هو المسيح، الذي كان من المفترض أن يكون من أصل نبيل، لا بل من أصل ملكي وفقاً للمفهوم الدنيوي. والحال هو أن أيّ من مظاهر الترف لم يكن يميز هذا النجار الوضيع والمتواضع من الناصرة، لأن نبله كان داخلياً. رأى بطرس في معلّمه، المسيح “ابن الله” وحسب، على الرغم من بساطة ملابسه. لهذا السبب يقول له يسوع: “ليس لحم ولا دم (من طابع مجد بشري) كشف لك هذه الحقيقة لكن أبي الذي في السماوات”. إنه حدس داخلي، نور روحي قوي وعميق دفع بطرس لهذا الكلام.

لكن المسيح، للمفارقة، أسرع إلى توصية تلاميذه “أن لا يخبروا أحدا بأنه المسيح” (متى 16، 20). لماذا؟ لأن الجموع كانت ستأتي لترغمه أن يكون الملك السياسي لإسرائيل كما حصل سابقاً (يوحنا 6، 15). لم يوصيهم فقط بالكتمان الكامل، بل، “بدأ من ذلك الوقت يصرّح لتلاميذه أنه يجب عليه أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيراً… ويموت قتلاً، وفي اليوم الثالث يقوم” (متى 16، 21).

عند هذه الكلمات، تفوّق اللحم والدم عند بطرس، فلم يعد يسمع شيئاً مما قد يستطيع الآب السماوي أن يوحي به إليه. لاقتنعاه بأن المسيح سيعيد الملك لإسرائيل، لم يكن يقدر أن يتصور أن مخلص “الأمة” هذا سيموت قتلاً. “فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره (يوبخه، يأنبه) قائلاً: حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا” (متى 16، 22). إن كان هذا موقف الرسل بعد عامين من التعليم، تخيل ما كان يمكن لليهود الآخرين أن يفكروا عن يسوع… ولا سيما يهوذا الإسخريوطي الذي لم يكن يتطلع إلا إلى المملكة الإسرائيلية.

بعد أن أثنى عليه لأنه عرف أنه المسيح، أخذ يسوع يوبخ بطرس لأنه “انتهره”. كان المفهوم المسيحي عند بطرس لا يزال عديم الروح: “إبتعد عني يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأن أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله” (متى 16، 23). لا زال الإسرائيليون يبحثون، منذ أيام صموئيل، على المملكة الإسرائيلية التي يدينها الله!

من خلال إدانته لدولة إسرائيل، يقيم الله في العالم مبدأ جديداً لمحاسبة الضمائر. هذا القانون يشملنا نحن بشر القرن العشرين، إنه معيار ومقياس الإيمان الحقيقي. الذين عملوا – ولا زالوا يعملون – لإنشاء واستمرار دولة إسرائيل، لا يفكرون مثل الله، بل مثل البشر، كما قال يسوع لبطرس. يقول لنا كتاب الرؤيا إنه في نهاية الأزمنة، سيعهد الله إلى رسله “قياس الهيكل”، أي فحص ضمائر البشر، خاصة المؤمنين المتمثلين “بالهيكل” (رؤيا 11، 1 / 21، 15). هذا الفحص هو في طور الإنجاز حالياً من خلال دولة إسرائيل: الذين يؤيدون هذا الكيان هم ضد الله، والذين يقاومون إسرائيل يخدمون مخطط الله للخلاص الشامل.

فحص الضمير الذي قام به يسوع من خلال السؤال الذي طرحه على تلاميذه: “من أنا في رأيكم أنتم؟”، بيّن أنهم فهموا أنه المسيح… لكن، الذي بالنسبة لهم، كان عليه أن يعيد مملكة إسرائيل. قبل صعوده إلى السماء، طلبوا منه أيضاً: “أفي هذا الزمن تعيد الملك إلى إسرائيل؟” (أعمال 1، 6). لم يكونوا بعد قد فهموا مقصود المعلم بالرغم من أنه “أظهر لهم نفسه حياً، وتراءى لهم مدة أربعين يوماً بعد آلامه، وكلمهم على ملكوت الله (الروحي)” (أعمال 1، 3).

الفحص الذي قام به يسوع مع تلاميذه كشف إيمانهم الراسخ به: “أنت المسيح!”. بعد سنتين من التأهيل، تمكنوا فقط من عبور هذه المرحلة الأولى. أمّا المرحلة الثانية – وهي أن المسيح ليس قومياً – تبقى برسم الإنجاز. في ذلك الوقت كان الرسل غير قادرين على التقدم أكثر من ذلك، كانوا عاجزين بسبب المفهوم القديم – الخاطئ مع أنه صار تقليدياً – الذي يقول إن على المسيح أن يكون ملكاً زمنياً على إسرائيل. بالنسبة لجميع اليهود كان ذلك أمر مسلم به وغير قابل للبحث.

كان ذلك شيئاً عظيماً لبطرس أن يكون عنده اليقين بأن يسوع هو المسيح. فعلى هذا اليقين كان الباقون يستطيعون أن يبنوا إيمانهم: “عندي كلام كثير أقوله لكم بعد”، يقول يسوع إلى الاثني عشر، “ولكنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوه (يوحنا 16، 12). حتى تلك اللحظة، لم يكونوا قادرين بعد أن يفهموا أن الذي وضعوا به كل أمالهم لرؤية الإمبراطورية الإسرائيلية، ينتهي به الأمر بطريقة مأساوية مسمّراً على صليب.

كذلك، لم “يبدأ” يسوع بكشف مخطط الله لرسله إلا بعد أن تأكد من قوّة إيمانهم بشخصه: قال لهم إنه “سيتألم كثيراً… ويموت قتلاً…” (متى 16، 21 – 23). كي يشرح لهم أن لهذه المأساة أسباب عميقة، وأنه يقبل بها طوعاً لخيرهم، وأنه قادر بما فيه الكفاية على تجنبها، تجلى يسوع لرسله “ستة أيام بعد” إعلان موته، هذه الخاتمة الرهيبة بالمفهوم الإنساني، لمسيحيته. لكن، كان يجب أن يعرفوا، أنه لو أراد، لكان قادراً أن ينجو من هذا الموت المهين، هو الذي تجلى أمامهم، هو الذي أقام الأموات. كان لخيرهم أن يخضع – طوعاً- للتضحية: “صدّقوني، من الخير لكم أن أذهب” (يوحنا 16، 7)، يقول لهم يسوع. وأيضاً: “…ما من أحد ينتزع مني حياتي، بل أنا أضحي بها راضياً. فلي القدرة أن أضحي بها، ولي القدرة أن أستردها” (يوحنا 10، 17 – 18). “أخبركم بهذا قبل أن يحدث، حتى متى حدث تؤمنون” (يوحنا 14، 29).

إحفظ إذاً أن يسوع، كي يخلّص تلاميذه، قبِل طوعاً أن يسلم نفسه لجلاديه. لكن كان يجب أولاً أن يضمن إيمانهم بمسيحيته. بعد أن تأكد من هذا الإيمان عند رسله، سبر يسوع إيمان أصدقائه الأحماء: “أنا هو القيامة والحياة… أتؤمنين بهذا؟”، سأل يسوع مرتا. “نعم، أنا أؤمن كل الإيمان بأنك المسيح ابن الله الآتي إلى العالم”، أجابته مرتا (يوحنا 11، 25 – 27). ومن ماذا كان يسوع سيخلص أخصاءه؟ من الكذب الصهيوني، من تضليل القومية، من المطالبة بكل مكان تطأه أقدامهم، معتقدين أنهم وحدهم مختارون وأكثر أهمية، بحسب الله، من غير اليهود. باختصار، أراد يسوع أن يحرر كل المؤمنين الحقيقيين به من نار التعصب والمادية.

ليوطد إيمان رسله، أراد المسيح أن يظهر لهم قدرة جسده على إخضاع عناصر الطبيعة. فقد كانوا شهوداً على ذلك برؤيته يمشي على البحر، الأمر الذي لم يقدر بطرس أن يفعله. ساهم ذلك بزيادة إيمانهم (متى 14، 25 – 33).

مرة ثانية ذكّر يسوع بموته القريب، “فحزن الرسل كثيراً” (متى 17، 22 – 23)، خصوصاً أنه قال هذا بعد التجلي.

مرة ثالثة يكرر يسوع: “…سيسلّم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهنة ومعلمي الشريعة… ويصلبونه” (متى 20، 17 – 19). “لكن”، يضيف لوقا، وعلى الرغم من كل هذه التنبيهات، “ما فهم التلاميذ شيئاً من ذلك، وكان هذا الكلام مغلقاً عليهم، فما أدركوا معناه” (لوقا 18، 31 – 34). لأنهم كانوا مقيدين بفكرة المملكة الإسرائيلية وكانوا يتصورون أن (مع يسوع) المملكة الوهمية ستظهر على الفور (لوقا 9، 11).

بالنسبة لليهود، “ملكوت الله” (أو “ملكوت السماوات”) على الأرض، يعني مملكة إسرائيل في فلسطين. بالنسبة ليسوع، ليس الأمر كذلك. كيف تفهم أنت هذا الملكوت؟

كل المجتمع اليهودي كان مبهوراً ومتعطشاً إلى حد كبير للدولة السياسية حتى جاءت والدة الرسولين يعقوب ويوحنا إلى يسوع، تماماً بعد الإعلان الثالث لآلامه، لتطلب معروفاً مادياً لإبنيها: “وجاءت إليه أم يعقوب ويوحنا ابني زبدي ومعها ابناها، وسجدت له تطلب منه حاجة. قالت: مر أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك وواحد عن شمالك في مملكتك… ولما سمع التلاميذ العشرة، غضبوا على الأخوين” (متى 20، 20 – 24). لاعتقادهم أن هذه المملكة دنيوية كانت وشيكة، كان التلاميذ يتهافتون على المركز الأول، كل واحد كان يرى نفسه جديراً بأن يكون رئيس الوزراء، أو يريد حقيبة وزارية مهمة…

على السؤال الذي طرحه عليه الرسل: “من هو الأعظم في ملكوت السماوات؟”، لم يجب يسوع: “هو أنت، بطرس، أو أنت فلان”، بل “دعا طفلاً وأقامه في وسطهم وقال: …من اتضع وصار مثل هذا الطفل، فهو الأعظم في ملكوت السماوات” (متى 18، 1 – 4). وبإجابته على طلب أم يعقوب ويوحنا، يقول يسوع: “إن رؤساء الأمم يسودونها… فلا يكن هذا فيكم… من أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن لكم عبداً…” (متى 20، 24 – 28).

لينزع كل وهم من عقول رسله، دعاهم المسيح ليتبعوه في طريق التضحية، لا في طريق المجد وفقاً للعالم: “من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني… ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله (كما يتمنى الإسرائيليون) وخسر نفسه؟” (متى 16، 24 – 26). ألم يرفض المسيح ممالك الدنيا التي عرضها عليه إبليس (متى 4، 9 – 10)، واليهود فيما بعد (يوحنا 6، 15)؟ بينما في المقابل، سيقبل المسيح الدجال بامبراطورية “التنين” (إبليس) في الزمن الرؤيوي الذي نعيشه (رؤيا 13، 2).

معظم تعاليم يسوع تسعى إلى تدمير ذهنية الغيتو والطائفية العشائرية أو العائلية التي كان المجتمع اليهودي منغمساً فيها في ذلك الوقت. ليحطم هذه العقلية المتشددة قال يسوع لسامعيه اليهود: “لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام (“الشالوم” الإسرائيلي( إلى العالم، ما جئت لأحمل السلام بل سيفاً. جئت لأفرق بين الابن وأبيه، والبنت وأمها… ويكون أعداء الإنسان أهل بيته” (متى 10، 34 – 36). السيف الذي يتكلم عنه يسوع هو كلمة الحق القاطعة.

ينسب اليهود إلى يسوع هذه الكلمات التي، بالنسبة لهم، تخالف الوصية الإلهية عن احترام الوالدين. هذا خطأ، لأن ما يريد المسيح قوله هو إن بعض الأهل سيثورون ضد أولادهم عندما يرونهم يتبعون تعاليم يسوع اللاسياسية، معتبرينها ضد الأمة اليهودية وغير وطنية. كذلك، إن الذين يستسلمون لتخويف أهلهم إلى حد ابتعادهم عن المسيح، هم غير جديرون به: “من أحب أباه وأمه أكثر مما يحبني، فلا يستحقني” (متى 10، 37). تعبّدنا لله يعني أن نعمل كل جهدنا لكسر قيود التقاليد البشرية التي تمنعنا من الفوز بملكوته (متى 11، 12).

إن الجزء الأكبر من المجتمعات الحديثة، حتى تلك التي تزعم الإيمان بالله والديمقراطية، ملعونة بسبب تعصبها. ماذا يقول الإسرائيليون اليوم عن يسوع، المسيحيون، المسلمون والعالم بأكمله عندما يسمعون المسيح يتكلم بهذه الطريقة؟ ماذا يقول يهود القرن العشرين اليوم في فلسطين عند سماعهم يسوع ينكر حقهم الإلهي بإقامة دولة إسرائيلية في فلسطين؟ ماذا يقول المسيحيون عند سماعهم يسوع يدين دولة الفاتيكان والديانة المسيحية بشكل عام، التي تحولت للإلحاد؟ من يقدر أن ينفصل عن عائلته ليتبع يسوع بحرية؟ إنهم قليلون في الحقيقة.

لماذا كان على المسيح أن يموت قتلاً؟

بموته دون أن يعيد إقامة المملكة الدنيوية في إسرائيل، قضى يسوع على مفهوم المسيح الصهيوني. بعد موته، إستمر تلاميذه، فعلاً، بالإيمان بأنه المسيح، على الرغم من أنه لم يعيد ملك سلالة داود.

كان على يسوع أن يموت بهذه الطريقة ليقتل القومية اليهودية بموته على الصليب. فأعاد بذلك الحياة إلى جوهر الديانة اليهودية الحقيقية التي هي روحية وليست سياسية.

بموته حرر يسوع أخصاءه من خلال ظهوره كمسيح روحي وشامل جاء إلى العالم للبشرية جمعاء، لا لليهود وحدهم. إن الغير يهودي يدين بامتلاكه الكتاب المقدس لموت يسوع. هذا الكتاب كان يحتفظ به اليهود بعناية فائقة قبل مجيء يسوع. لكن الكهنة والكتبة اليهود جعلوا كلام الأنبياء مغلقاً ومنيعاً لأنه كان يدينهم. فلم يكن رؤساء اليهود يريدون أن يعرضوا عارهم أمام العالم كله.

من خلال وضع الكهنة يدهم على الكتاب المقدس جعلوه غير قابل للفهم، ليس فقط من غير اليهود، بل أيضاً من الأغلبية الساحقة لليهود أنفسهم. لام النبي هوشع الكهنة لأنهم تركوا الشعب في الجهل (هوشع 4، 4 – 6) وأدانهم ملاخي لأنهم حبسوا معرفة الله وراء قضبان شفاههم (ملاخي 2، 7 – 9). يسوع أيضاً ثار ضدهم واتهمهم قائلاً: “استوليتم على مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم، ولا تركتم الداخلين يدخلون” (لوقا 11، 52 / متى 23، 13). بإعطائه “مفاتيح ملكوت السماوات” لبطرس، فتح يسوع باب معرفة الله لشعوب العالم كله (متى 16، 19)، محرراً هذه المفاتيح من أيدي الطبقة الكهنوتية اليهودية العقيمة.

لزم يسوع حباً هائلا، بل حبّاً بلا حدود، وشجاعة لا تقهر لمواجهة الإسرائيليين. لم يتردد من عبور هذه النار الملتهبة ليحصل لنا على النور من خلال الستار الحديدي الإسرائيلي: “هكذا أحب الله العالم (كله) حتى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يوحنا 3، 16).

ماذا سيكون موقف يهود إسرائيل اليوم، الحاخامات بوجه خاص، من يهودي يقول إنه المسيح ويرفض كل أشكال القومية اليهودية لدولة إسرائيلية؟ كل الشر يأتي من واقع أن اليهود يكابرون لإقامة دولة سياسية. أصبحت هذه الدولة الصراع المركزي بين يسوع واليهود، كما كان الصراع بينهم وصموئيل… وبينهم والله (صموئيل الأول 8). لو تمكن الإسرائيليون من الاعتراف بالمسيحية الإلهية، اللاسياسية، لما كان هناك من سبب كي يعاني يسوع الموت الجسدي. لكان استمر بالتعليم سلمياً وبالإعلان عن الطريق الروحي المفتوح لجميع البشر، وذلك بمساعدة الطائفة الإسرائيلية بأكملها.

والحال هو أن تلاميذ يسوع، وهم وحدهم، جعلوا الإيمان متاحاً للوثنيين، وذلك على حساب انذهال بعض اليهود وغضب غالبية البعض الآخر (أعمال 10، 34 – 48 / 11، 1 – 8 / 14، 27 / 15، 7 – 12 / 26، 23 …). كان يجب عليه الذهاب حتى الصليب ليقتل المسيحية السياسية والمتعصبة، لكن “المفتاح” الذي أعطي إلى بطرس أعطى ثمراً كثيراً (متى 16، 19).

متى يجب أن نسامح أو متى يجب أن ندين؟

يسيء البعض فهم تعليم يسوع عن المغفرة والدينونة. يعتقدون أنه يجب دائماً أن نغفر كل شيء لكل الناس، دون قيد أو شرط، دون إدانة على الإطلاق. هكذا موقف هو ارتهان للذات، تنازل عن شرف الإنسان وإعطاء الضوء الأخضر للشر في العالم.

هذا هو مقصود المسيح فيما يخص المغفرة والدينونة:

المغفرة

لا تمنح المغفرة إلا بشرط: “إذا خطئ أخوك إليك، فاذهب إليه وعاتبه بينك وبينه، فإذا سمع لك تكون ربحت أخاك. وإن رفض أن يسمع لك… فقل للكنيسة، وإن رفض أن يسمع للكنيسة، فعامله كأنه وثني أو جابي ضرائب” (متى 18، 15 – 17). الوثنيون وجباة الضرائب كانوا منبوذين من قبل جماعة المؤمنين.

ذلك يعني أنه لا يجب على المرء أن يكون حقوداً وأن يتوقف على الغلطة، بل أن يفتح قلبه للآخر ويسامحه إن أصغى للتوبيخ. إن كانت هناك توبة، فيجب إذاً أن نغفر لنحصل نحن أيضاً على المغفرة: “فإن كنتم تغفرون للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم” (متى 6، 14 – 15). لكن إذا لم يندم المذنب على غلطته، عندئذٍ يجب أن يُرفض بما أنه يجب اعتباره كوثني.

أن نغفر لا يعني إذاً أن يكون موقفنا ضعيف بحيث:

  1. يجب أن نوبخ الخاطئ، بصراحة وعلانية إن اقتضى الأمر، و
  2. إن أصر على أخطائه يجب قطع العلاقة معه إن رفض الإصغاء.
    “إذا أخطأ أخوك فوبخه”، يقول لوقا، “وإذا أخطأ سبع مرات في اليوم، ورجع إليك في كل مرة فقال: أنا تائب، فاغفر له” (لوقا 17، 3 – 4). على التوبيخ إذاً أن يتبعه صفح حنون إن كانت التوبة صادقة.

مهمة يوحنا المعمدان كانت بالتحديد الدعوة إلى التوبة لاستحقاق المغفرة.

مع ذلك، هناك خطيئة لا تغتفر “لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة”، كما يقول يسوع. إنها الخطيئة ضد “الروح القدس” (متى 12، 31 – 32). ترتكز هذه الخطيئة على معارضة أفكار المرء وآرائه لأفكار وآراء الله. لا يمكن في هذه الحالة أن يكون هناك مغفرة لأنه لا توجد توبة حقيقية. بكلامه هذا، كان يسوع يتوجه إلى الفريسيين الذين كانوا يعارضونه وينسبون قدرته الخارقة للشيطان، لا “لروح الله” (متى 12، 22 – 28). لا يُغفر لأناس يزعمون التديّن عدم تمييزهم روح الله في الأعمال الإلهية. هذا مظهر من مظاهر الخطيئة ضد الروح القدس. التكبر والأنانية هما مثالان آخران على ذلك. كتاب الرؤيا يضع لائحة بهذا النوع من الخطيئة (رؤيا 21، 8).

هذه الخطيئة الخطيرة والتي لا تغتفر ترتكز على رفضنا المتكبر والغير منطقي للحقيقة الواضحة. أن نحوّل نظرنا كي لا نرى أننا أخطأنا، أن نقول عن الجمال إنه قبيح وعن الحقيقة إنها باطل، هو خطيئة ضد الروح الإلهي: “ويل للذين يدعون الشر خيراً والخير شراً، الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً”، يقول إشعيا (إشعيا 5، 20). أن ندعي حق الإدانة دون الرجوع إلى الله هو “أن نأكل من شجرة معرفة الخير والشر التي تميت” (تكوين 2، 17) كي نعطى لأنفسنا حرية الحكم السطحي، وفقاً لذهنيتنا البشرية الخاصة – المشوهة في أكثر الأحيان- دون تفويض الأمر لله كمعيار للحكم.

يطلب منا يوحنا أن نصلي لأخ “ارتكب خطيئة لا تؤدي إلى الموت فنمنحه الحياة (بنعمة التوبة)”. لكنه يطلب منا بالمقابل، “أن لا نصلي إلى الذين يرتكبون خطيئة تؤدي إلى الموت” (يوحنا الأولى 5، 16 – 17). المقصود هو الخطيئة ضد الروح السماوي التي من أجلها يكون الله بلا رحمة. لأن الذين يرتكبون هذا النوع من الخطايا الخطيرة هم أعداء الله، حتى لو ظهروا بمظهر المؤمنين. أبناء الله الحقيقيون لا يرتكبون مثل هذه الخطايا: “نعرف أن كل من ولد من الله لا يخطأ، لأن المولود من الله (يسوع المسيح) يصونه فلا يمسه الشرير (إبليس)”، يقول يوحنا أيضاً (يوحنا الأولى 5، 18 – 19). إن الصلاة من أجل أعداء الله هي إهانة فعلية لله: “وأنت يا إرميا فلا تتضرع ولا ترفع دعاء ولا صلاة لأجل هذا الشعب… فانا لا أسمع لك”، يقول الآب السماوي لإرميا (إرميا 7، 16).

كي نميز الخطيئة التي تغتفر من التي لا تغتفر يجب أن يكون روح الله فينا. فإن الله يهب روحه لأبنائه الحقيقيين (لوقا 11، 13). بمساعدة النور الإلهي، وبناءً على وضع الشخص العام، يمكننا أن نتبين أعماق قلبه وأن نعرف إن كانت توبته حقيقية أو مرغوب بها، أو إن كان الشخص متمسكاً بأخطائه دون أمل بنبذها.

الإدانة

كثيرون يعتقدون – على نحو غير صحيح – أن يسوع يمنع المؤمنين من إدانة الآخرين عندما يقول: “لا تدينوا، فلا تدانوا. لا تحكموا على أحد، فلا يحكم عليكم” (لوقا 6، 37).

والحال هو أننا عندما تنبين خطيئة ما، علينا أن نصدر حكمنا عليها. عندما نصح يسوع بعدم الإدانة، كان يتوجه إلى سامعيه المتعودين على إدانة الآخرين بلا ترو، وعلى تقديرهم بحسب ما يتوافق ومصالحهم الخاصة وطرق تفكيرهم. لقد رفضوا يسوع، وحكموا عليه وفق معطيات سطحية وبناءً على مظهره الفقير الذي لم يتناسب مع مفاهيمهم الفخمة للمسيحية. فرؤساء اليهود لم يحكموا على يسوع وفقاً للنبوءات المسيحية ولميازين العدل التي تستوجب موضوعية مطلقة.

لا بمكننا أن نكتسب هكذا موضوعية إلا بعد أن نكون قد تجردنا من التعصب والشهوات العمياء. ما دام هذا التطهير لم يحصل، علينا الامتناع عن إدانة تصرف الآخرين: “لا تحكموا على الظاهر”، يقول يسوع، لكنه يضيف في الحال: “بل احكموا بالعدل” (يوحنا 7، 24).

يجب علينا قبل كل شيء أن نحكم على أنفسنا، أن نعترف بعيوبنا، أن نصححها لنتمكن من الرؤية بوضوح و، بعدئذٍ، يمكننا أن نحكم على الآخرين، إنما “بالعدل”، لا بحسب اعتقادنا. والعدل يأمرنا أن ننزع الشر الذي فينا “حتى نبصر جيداً فنخرج القشة من عين الآخر” كما قال يسوع أيضاً (متى 7، 5).

يطلب منا يسوع أن “لا نعطي الكلاب ما هو مقدس، وأن لا نرمي دررنا إلى الخنازير” (متى 7، 6). لنطبق ذلك، يجب أن نحكم أن فلان هو “كلب” وفلان آخر “خنزير”.

نستخلص إذاً أن الحكم هو واجب لا يجب الامتناع عنه، شرط أن تكون أحكامنا صادرة بنور الله، وفقاً لعدله الكامل.

يسوع والأغنياء (متى19، 16 – 26)

المسيح ليس ضد امتلاك الثروات المادية، لكن ضد التقيد بالمال، مثل البخلاء الذين يفضّلونه على القيم الروحية: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” (متى 6، 24).

عندما دعا يسوع ذلك الشاب الغني ليتبعه ويكون رسوله، لكن فقط بعد أن يتنازل عن كل ما يملك للفقراء، فبدل أن يبتهج للأمر، “مضى حزيناً لأنه كان يملك أموالاً كثيرة” (متى 19، 22). لم يكن جاهزاً للتخلي عن ثرواته المادية في سبيل الثروات الروحية (متى 19، 22).

“يصعب على الغني أن يدخل ملكوت السماوات”، يقول يسوع (متى 19، 23) لا لأنه غني، بل لأنه يضع كامل ثقته في ثروته المادية، لا بالله: “إنتبهوا وتحفظوا من كل طمع، فما حياة الإنسان بكثرة أمواله” (لوقا 12، 15). وأيضاً، “عليك أن توصي أغنياء هذه الدنيا بأن لا يتكبروا ولا يتكلوا على الغنى الزائل (المال، إلخ)، بل على الله… وأن يعملوا الخير ويكونوا أغنياء بالأعمال الصالحة… ويشاركوا غيرهم… فينالون الحياة الحقيقية (الأبدية)” (تيموثاوس الأولى 6، 17 – 19).

من بين تلاميذ يسوع كان يوجد أغنياء، لكن من الذين يحسنون التصرف بأموالهم: “وجاء عند المساء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان من تلاميذ يسوع… فأخذ جسد يسوع ولفه في كفن نظيف، ووضعه في قبر جديد كان حفره لنفسه في الصخر” (متى 27، 57 – 60). كذلك لعازر وأختاه، مريم ومرتا، كانوا أغنياء، وزكا “رجل غني من كبار جباة الضرائب” (لوقا 19، 2) خلص لأنه قرر “أن يعطي نصف أمواله للفقراء، وإذا ظلم أحداً في شيء، يرده عليه أربعة أضعاف” (لوقا 19، 1 – 10). (مراجعة كورنثوس الثانية 8، 13: البحث عن المساواة، لكن دون الوقوع في الإفلاس).

الرسل، مثل جميع اليهود، كانوا يعتقدون أن الغنى المادي هو علامة نعمة ربانية. ذهلوا من كلام المسيح عن الأغنياء وسألوه: “من يمكنه أن يخلص إذاً؟ ” بما أن الأغنياء أنفسهم عندهم مثل هذه الصعوبات (متى 19، 25). في حين أن يسوع سبق أن ذكرهم بنبوءة إشعيا: “والمساكين يتلقون البشارة” (متى 11، 5 / إشعيا 61، 1). لذلك “نظر إليهم يسوع (هم المساكين)، وقال لهم: هذا (الخلاص) شيء غير ممكن عند الناس (حتى لو كانوا أغنياء)، أمّا عند الله فكل شيء ممكن” (متى 19، 26). هذا ليقول لهم إن الله فضلهم، هم المساكين الذين تخلوا عن كل شيء (حتى لو لم يكن عندهم إلا القليل)، على الأغنياء الذين رفضوا أن يكونوا تلاميذه.

باختصار، يوجد من بين الأغنياء من هم أغنياء روحياً أيضاً من خلال حسن استعمالهم للمال. هؤلاء يتبعون يسوع. كما يوجد بينهم من هم تعساء روحياً لأنهم متعلقون بمالهم الذي عليه تتوقف طمأنينتهم. بالمقابل، يوجد من بين الفقراء من هم أغنياء روحياً لأنهم يثقون بالله الذي لا يخيب أملهم أبداً (متى 6، 25 – 34). يوجد من بين الفقراء من هم شديدو البؤس، لأنهم متعطشين للمال ومستعدين لأن يفعلوا أي شيء -حتى الباطل- كي يستمروا بالحصول على المزيد، بدلاً من تفويض أمرهم لله.

لعن شجرة التين (متى 21، 18)

هذه اللعنة هي حقيقية، لكنها فوق كل شيء رمزية. لاحظ أنها تلي طرد الباعة من الهيكل وتسبق عودة يسوع إليه، حيث اعترضه رؤساء الكهنة الذين استجوبوه بمكر (متى 21، 23 – 27). شجرة التين (مثل الكرمة) هي رمز لإسرائيل. عندما لعنها يسوع، شعر رؤساء اليهود بأنهم مستهدفون (مثلما كان سيشعر-مثلاً- اللبنانيون لو لُعنت الأرزة، رمز لبنان). هذه اللعنة للكتبة والفريسيين “المرائين” تظهر بشكل أوضح في الفصل 13 من إنجيل متى المخصص لإدانة هؤلاء “الحيات أولاد الأفاعي” الذين “سينزل بهم العقاب على سفك كل دم بريء على الأرض”، وينتهي بإدانة أورشليم (متى 23، 37 – 39)، التي ترمز إليها شجرة التين الملعونة. “لأن وقت التين ما حان بعد”، يقول مرقس (مرقس 11، 13)؛ كان يسوع يعلم إذاً أنه لن يجد تيناً على شجرة التين في ذلك الوقت. فالعبرة واضحة: مثلما لا تحمل شجرة التين ثمراً وتخدع الناس بأوراقها التي تخبئ عريها، هكذا تتخضب أورشليم لتخفي شرها وجرائمها التي لا تحصى (مراجعة إرميا 4، 30 و متى 23، 37). إقرأ مثل التينة التي لا تثمر (لوقا 13، 6 – 9).

لاحِظ أخيراً أن هذه القصة تخفي عبرة: “…لو كنتم تؤمنون ولا تشكّون، لفعلتم بهذه التينة مثلما فعلت، لا بل كنتم إذا قلتم لهذا الجبل: قم وانطرح في البحر، يكون لكم ذلك” (متى 21، 21). “التينة” و “الجبل” هما رمزان لإسرائيل. كان يسوع يتكلم “وهو راجع إلى المدينة” (أورشليم : متى 21، 18)، وكان ينظر إليها وهو يتكلم. إنها هي هذا “الجبل” الذي يتكلم عنه أيضاً كتاب الرؤيا، الذي “وقع في البحر” (رؤيا 8، 8). إنها وحش الرؤيا الذي يجب مقاومته والتغلب عليه بالإيمان الذي لا يشك أبداً، و “رميه في البحر” من حيث خرج (رؤيا 13، 1). هذه هي العبرة من هذه القصة، عبرة يجب تطبيقها اليوم، بعد عودة هذا الجبل الملعون الذي استطاع أن يخدع الضعفاء في الإيمان. (جبل صهيون غالباً ما يُذكر في الكتاب المقدس كرمز لإسرائيل: ميخا 3، 12 / يوئيل 2، 1 / دانيال 9، 20).

الضرائب (متى 22، 13 – 17)

كان الرومان يجبون الضرائب من البلدان التي كانوا يحتلونها. في فلسطين، كان اليهود يدفعون هذه الضرائب بالعملة المتداولة التي، إبّان العهد الروماني، كان تحمل صورة القيصر. لم يكن يوجد عملة إسرائيلية، بالرغم من أنه كان يوجد شبه مملكة إسرائيلية مع الملك هيرودوس.

كان اليهود يعتبرون فريضة دفع مثل هذه الضرائب استعباداً لا يحتمل. كان الرومان يكلفون موظفين يهود، يدعون العشارين، بجباية هذه الضرائب من مواطنيهم الذين كانوا يكرهونهم. من خلال اختياره متى (عشار وجابي ضرائب)، تحدى يسوع وأغضب عدداً كبيراً من اليهود (متى 9، 9 – 11).

“ذهب الفريسييون وتشاوروا كيف يمسكون يسوع بكلمة. فأرسلوا إليه بعض تلاميذهم وبعض الهيرودوسيين (وهم ملة تدافع عن مصالح الملك هيرودوس، الذي كان يعلم أن الشعب لا يحبه، فكان هؤلاء رجاله الذين يتجسسوا على الناس في الهيكل والمدن) يقولون له: …أيحل لنا أن ندفع الجزية إلى القيصر أم لا ؟ ” (متى 22، 15). لو أجاب يسوع بـ “نعم”، لكان اتهم بخيانة الأمة اليهودية وجلب على نفسه عداوة الشعب الذي كان معجباً به، مقوضاً نفسه، “ممسوكا بكلمته” كما كان الفريسيون يريدون. إن أجاب بـ “لا”، لكان الرومان اتهموه بأنه ثوري يمنع الشعب من دفع الضرائب. الخطة كانت مدبرة بشكل جيد.

كان اليهود يودون أن يكون يسوع هذا الثائر القومي. كانوا سيدعمونه. ألم يحاولوا أن يقيموه ملكاً على إسرائيل؟ (يوحنا 6، 15). لم يقرروا أن يتخلوا عنه إلا بعد أن أدركوا نواياه اللاسياسية. حتى أنهم إتهموه بما كانوا يريدونه في الحقيقة أن يفعل: أن يقود العصيان ضد رومة. المرائين! تجدر الملاحظة أن هذه الحادثة حصلت في أواخر رسالة يسوع، بعد أن أدرك اليهود، الخائبي الظن، أن رسالته لم تكن قومية، فقرروا إذاً أن يتخلوا عنه.

أحبط يسوع حيلتهم: “عرف يسوع مكرهم، فقال لهم: …أروني نقد الجزية…: لمن هذه الصورة وهذا الإسم؟ قالوا: للقيصر”. هكذا إذاً، العملة التي كانت متداولة في إسرائيل كان منقوش عليها صورة القيصر، لا صورة هيرودوس، أو أي ملك يهودي من الماضي. جواب يسوع الجوهري صعق هؤلاء النمامين: “إدفعوا إذاً إلى القيصر ما للقيصر، وإلى الله ما لله!” . نقل الهيرودوسيون هذا الكلام إلى ملكهم وهم في غاية الإحراج.

بقبولهم أن يبيعوا ويشتروا بالعملة الرومانية، كان على اليهود قبول دفع الجزية بنفس العملة.

الحقيقة عن يهوذا

لماذا خان يهوذا يسوع؟

قليل من الناس يستطيعون أن يجيبوا بوضوح على هذا السؤال. حاول أن تجيب قبل متابعة القراءة.

لماذا تبع يهوذا يسوع؟

إن الإجابة على هذا السؤال هي التي تسمح لنا أن نجيب بذكاء على السؤال الأول.

كل ما كان يهوذا يريده من يسوع هو تجديد المملكة الداودية. كان يأمل أن يضع يسوع كامل قدرته الروحية في خدمة هذا الهدف السياسي، آملاً باحتلال أفضل المراكز. عجائب المسيح ومعانيها الروحية لم تكن تهمه قط، لم تثير عنده لا إعجاباً ولا حماسة قادرة على إعلاء حكمه روحياً. فبقي عديم الروح.

بعد أعجوبة تكثير الخبز، تبعت الجموع يسوع بإعجاب لتعلنه ملكاً. فتوارى عنهم. بحثوا عنه، فوجدوه، إنما ليسمعوا منه توبيخاً: “أنتم تطلبوني لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم… بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبدية” (يوحنا 6، 26 – 27).

ِمثل يهوذا، لم يكون هؤلاء الناس مهتمين سوى بالعائدات المادية. والدليل هو أنه عندما تكلم عن الخبز الحقيقي الذي يعطي الحياة الأبدية للروح، لم يعودوا يسمعوه، ليستنتج قائلاً: “لكن فيكم من لا يؤمنون”. يوضح يوحنا أيضاً: “كان يسوع يعرف من البدء من الذين لا يؤمنون به ومن الذي سيسلمه” (يوحنا 6، 64 – 71).

كان يهوذا إذاً من الذين لم يؤمنوا بالمعنى العميق لعجائب يسوع، بالرغم من وجوده بنفس المكان عند حصولها. استمراره بمرافقة يسوع، دون أن يؤمن به، كان أكثر خطورة من لامبالاته. كان الأجدر به أن يذهب مع الجموع التي انصرفت عندما طلب يسوع من الإثني عشر: “وأنتم أما تريدون أن تتركوني مثلهم؟ ” (يوحنا 6، 67). لماذا بقي؟ لأنه كان متعلقاً بالعائدات التي كانت ستؤمنها له المملكة المرتقبة التي كان يأمل أن يرى يسوع يقيمها. لم يكن يهمه أي شيء آخر.

كان يسوع يعرف نوايا هذا التلميذ المزيف الحقيقية فيقول: “أما اخترتكم، أنتم الاثني عشر؟ لكن واحداً منكم شيطان!” لا يترك لنا يوحنا المجال لنحزر من هو “الشيطان” فيضيف: “وعنى بذلك يهوذا بن سمعان أسخريوط، وهو الذي سيسلمه، مع أنه أحد الاثني عشر” (يوحنا 6، 70 – 71).

عندما غضب بطرس على يسوع بسبب إعلانه عن موته القريب، أجابه يسوع: “إبتعد عني يا شيطان!” (متى 16، 23). لكن بطرس انتهى به الأمر إلى قبول مملكة يسوع الروحية. واحد من الاثني عشر كان عليه أن يتمسك بشيطانه: “واحد منكم شيطان”، أوضح يسوع، واحد فقط: يهوذا الإسخريوطي.

فرق آخر بين بطرس ويهوذا هو أن بطرس، أنكر أنه يعرف يسوع (متى 26، 69 – 75)، لأنه كان تحت تأثير المفاجأة. لكن يهوذا فعل ذلك عن سابق تصور وتصميم. خطيئة بطرس هي من النوع الذي يغتفر. أما خطيئة الخائن، يهوذا، هي ضد الروح القدس، خطيئة لا تغتفر (مرقس 3، 28 – 30 / يوحنا 15، 22 – 24 / يوحنا الأولى 5، 16).

لقد قرر يهوذا خيانة يسوع عندما فقد كل أمل برؤيته يحقق أغلى أمنياته: مملكة إسرائيل. نبت القرار تدريجاً في قلب يهوذا وأثيرت الرغبة في نفسه بالإنتقال إلى الفعل وقت العشاء في بيت لعازر، “قبل الفصح بستة أيام” (يوحنا 12، 1 – 11)، قبل الصلب بخمسة أيام وقبل الخيانة في جبل الزيتون بأربعة أيام. خلال العشاء عند لعازر، “تناولت مريم قارورة طيب غالي الثمن من الناردين النقي، وسكبتها على قدمي يسوع… فقال يهوذا الإسخريوطي: أما كان خيراً أن يباع هذا الطيب بثلاثمئة دينار لتوزع على الفقراء؟ قال هذا لا لعطفه على الفقراء، بل لأنه كان لصاً وكان أمين الصندوق، فيختلس ما يودع فيه” (يوحنا 12، 5 – 6). ذاك هو الجانب الغامض ليهوذا، وجهه الحقيقي كـ “لص” كما كشف يوحنا الرسول الذي كان يعرفه حق المعرفة.

أجاب يسوع على ملاحظة يهوذا الفظة: “أتركوها! هذا الطيب حفظته ليوم دفني. فالفقراء عندكم في كل حين، وأما أنا فلا أكون في كل حين عندكم” (يوحنا 12، 7 – 8). بنظرة قوية وثاقبة وجّه يسوع هذا الكلام للذي سيخونه وأثقله ضميره. لم يتحمل يهوذا هذا التحجيم لشخصه ولا مديح يسوع لمريم، الذي كان بالمقابل يريده لنفسه: “في العالم كله يحدّث أيضاً بعملها هذا، إحياءً لذكرها” (متى 26، 13). “في ذلك الوقت” يقول متى، “ذهب يهوذا إلى رؤساء الكهنة” ليسلّم المسيح (متى 26، 14 – 15). فتكبره لم يقدر على تحمّل الإهانة علناً.

إنكشف خداع يهوذا أيضاً عندما أعلن يسوع للرسل: “واحد منكم سيسلمني”. فحزن التلاميذ كثيراً وأخذوا يسألونه، كل واحد بدوره: هل أنا هو، يا سيد؟ كذلك، سأله يهوذا (وكان يعرف جيداً أنه المستهدف): هل أنا هو، يا معلم؟، “- أنت قلت”، أجاب يسوع (متى 26، 20 – 25).

بتسليمه يسوع، كان يهوذا يأمل باستعادة ثقة الكهنة اليهود. بعد أن أدرك أنه خسر احترام الرسل واليهود، قام بشنق نفسه، يتآكله اليأس، مدركاً أنه قد أسلم دماً بريئاً (متى 27، 3 – 4).

يهوذا لم يكن يتوقع مثل هذه الخاتمة المأساوية. كان يتأمل ربما أن يحرج يسوع بتسليمه، معتقداً أنه بذلك سيجبره على التفاهم مع رؤساء الكهنة لتجديد الملك في إسرائيل. لكن لا يمكننا أن نرغم يد الله ونحمله على تحقيق مشيئتنا الخاصة، كالتهديد بالقتل. “لا تجرّب الرب إلهك!”، يهوذا جرّب الله. وذلك لمصلحته الخاصة كونه كان شديد التعلق بحلمه بأن يكون بين أصحاب النفوذ في هذا العالم.

بالإضافة إلى ذلك، يهوذا “لم يندم” ولم يأسف لأنه تبع يسوع، إلا “لما رأى أنهم حكموا عليه” (متى 27، 3). وضع ذلك حداً نهائياً لحلمه. ذلك هو السبب الحقيقي لندمه. لم تكن توبته لتساوي له الغفران الإلهي والخلاص. لم يبقى لديه سوى أن يختار الموت ليهرب من الواقع. فانتحر!

هذا الإنتحار هو رمز للمصير النهائي للصهيونية القديمة والحديثة. بموته، وضع يسوع حداً للأمال الصهيونية الكاذبة التي تؤدي إلى الإنتحار الروحي: “بموته، انتصر يسوع على الموت”، كما يقول طقس الفصح. اليهود المتمسكون بيسوع نالوا الخلاص من موت روحي أكيد. “أين شوكتك يا موت؟”، يقول بولس بعد اهتدائه إلى يسوع (كورنثوس الأولى 15، 55). لهذا السبب “كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام”، ويعرف الموت (لوقا 24، 26). بقضائه على الوهم الصهيوني بصليبه، قام يسوع من بين الأموات ليعيد للديانة اليهودية وجهها الحقيقي ولأخصائه الأمل الحقيقي.

تأمل

مثل يهوذا، آخرون فكروا أن يتبعوا يسوع لا لأسباب روحية، بل لأسباب قومية. ينقل لنا متّى حالتين عن ذلك (متى 8، 18 – 22) :

  1. قال معلم الشريعة ليسوع: “يا معلم، أتبعك أينما تذهب”. في تلك اللحظة، كان يسوع قد عمل عدة عجائب وكانت النفوس متأججة لصالحه. “ورأى جمهوراً حوله، فأمر تلاميذه بالعبور إلى الشاطىء المقابل” لبحيرة طبريا، التي كانت منطقة وثنية، يحتقرها اليهود ولا يرتادونها.

    في جو الحماس العام، يميّز معلم الشريعة نفسه ليقدّم خدماته ويتبع يسوع “أينما يذهب”، حتى إلى بلد وثني نجس، محرّم من التوراة. تجدر الملاحظة إلى أنه معلم شريعة مشرّب إذاً بالتعصب والقومية الإسرائيليين. كان مستعداً ليتبع يسوع كأي وطني مستعد ليتبع قائداً عسكرياً ثورياً يندفع لتحرير الوطن، بقوة السلاح.

    والحال هو أن وطن المسيح سماوي، لا جغرافي. وهذا ما لم يفكر فيه معلم الشريعة. بالتالي، يتركه يسوع ليفهم أنه لن يحظى بأي مجد دنيوي بانضمامه إليه: “ابن الإنسان لا يجد أين يسند رأسه”، هذا يعني: لماذا تتبعني إذاً؟ يظن البعض أن يسوع رفض اقتراح هذا الكاتب. لا ليس هذا هو الحال، كل ما فعل هو أنه لمّح له، بكلمتين، المتطلبات الحقيقية والتضحيات التي يجب أن يقبل بها ليكون تلميذاً للمسيح. من المفترض أن معلم الشريعة هذا قد تنازل عن اقتراحه، لأنه لو تبع يسوع فلاً، لكان ظهر بين الرسل. إذاً الكاتب هو الذي عدل عن رأيه، وليس يسوع هو الذي رفضه.

  2. هذا يفسر أيضاً لماذا “واحد من تلاميذه”، بعد أن سمع إجابة المسيح لمعلم الشريعة، قال له: “دعني أذهب أولاً وأدفن أبي ثم أعود فأتبعك”. هذا التلميذ أيضاً أراد أن يتهرب بلباقة: “إتبعني واترك الموتى يدفنون موتاهم”، أجابه عندئذٍ يسوع، ليبطل ذريعته (متى 8، 21 – 22).

كان من الأفضل ليهوذا أن ينسحب، هو أيضاً، في الوقت المناسب ككثيرين غيره (يوحنا 6، 21 – 22). لكنه، منقاداً برغباته المادية، فضّل البقاء على أمل والإنتظار… على مضض… حتى اليأس، الخيانة، والإنتحار.

نهاية الأزمنة (متى 24)

قبل بضعة أيام – ثلاثة أو أربعة- من نهاية حياته الأرضية، كلّم يسوع تلاميذه عن نهاية أخرى، خراب الهيكل ونهاية دولة إسرائيل، اللذان دُمّرا في سنة 70 م، أي 35 سنة تقريباً بعد هذا الإعلان النبوئي. تلك كانت الـ “نهاية” الثانية لإسرائيل.

في معرض كلامي عن النبي حزقيال، أشرت إلى أنه قد تنبأ هو أيضاً في زمنه بنهاية إسرائيل التي حصلت سنة 586 ق.م . تلك كانت الـ “نهاية” الأولى لإسرائيل.

في عصرنا – منذ سنة 1948 تحديداً- وللمرة الثالثة، قامت في العالم دولة إسرائيلية، بعد حوالي 2000 سنة من خرابها الثاني. ستشهد هذه الدولة نهايتها القريبة كما في المرتين السابقتين. لأنه عندما يتكلم يسوع عن النهاية، يقصد بالقول، مثل حزقيال، نهاية إسرائيل، هذا الكيان الذي يشكل عائقاً أمام مخطط الله.

دُمرت إسرائيل مرة أولى ليظهر الله لليهود أن هدفه ليس قومية عبرية، وإنه لا يجب اعتبار المسيح المنتظر كـ “وطني يهودي” سيشن غزواً عسكرياً لاحتلال العالم وإقامة إمبراطورية إسرائيلية (صهيونية). دُمرت إسرائيل مرة ثانية (سنة 70 م) لدلالة على أن المسيح قد أتى إلى العالم بشخص يسوع. ستدمر مرة ثالثة وأخيرة ولن تعود إلى الوجود أبداً. هذه النهاية الثالثة والأخيرة لدولة إسرائيل تنذر البشر بعودة يسوع الروحية كما أعلنها بنفسه في الإنجيل.

أيام قليلة قبل أن يسلّمه يهوذا، كان يسوع مع تلاميذه في أورشليم. وبينما كانوا يتأملون بناء المعبد الذي زخرفه هيرودس الكبير، فوجئوا بيسوع يقول لهم: “أترون هذا كله؟ الحق أقول لكم: لن يترك هنا (في أورشليم) حجر على حجر! بل يهدم كله!” (فكر باستياء يهوذا الخفي عند سماعه ذلك). فيسألونه: ” قل لنا متى يكون هذا، وما علامة مجيئك ونهاية العالم؟ “(متى 24، 2 – 3).

إنتبه إلى السؤال الذي طرحه الرسل: يريدون معرفة “متى يكون هذا (خراب الهيكل)” وأيضاً، “علامة مجيء (السياسي، كما كانوا يعتقدون) المسيح” الذي سيضع “نهاية للعالم” الوثني. فهموا أن يسوع سيتولى الملك، لكن بعد خراب هذا الهيكل الجميل. وفقاً لعقليتهم، سيجدد يسوع، مع ذلك، مملكة إسرائيل كما في زمن داود وسليمان. ويضع حداً بالتالي لنفوذ الأمم الوثنية، وعلى رأسهم رومة. لكن يسوع أراد أن يتكلم عن خراب الهيكل وعن نهاية السياسية لإسرائيل، لهذه المملكة التي، وفقاً الله، تجسّد، للمفارقة، الوثنية. ألم يقل يسوع إن الضابط الروماني، مع أنه وثني، عنده من الإيمان أكثر من كل الإسرائيليين، هؤلاء الذين “كان لهم الملكوت (إسرائيل) سيطرحون خارجاً في الظلمة” بسبب رفضهم ليسوع؟ (متى 8، 5 – 13).

اليوم، خاصة بعد عودة ظهور إسرائيل، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل بكثير من السابق، نبوءات يسوع عن نهاية الأزمنة الموجودة في أناجيل متى، مرقس ولوقا. يوحنا لا يتكلم عنها لأنه كتب إنجيله بعد الأناجيل المتوافقة بوقت طويل (45 سنة تقريباً) وكان يعرف بأنها كانت موجودة فيها.

أجاب يسوع على سؤال الرسل (“متى يكون هذا؟”) بطريقة أوسع بكثير مما كانوا يتصورون. إجابته لم تشمل فقط خراب الهيكل ونهاية إسرائيل الثانية (التي حصلت بعد ذلك بحوالي 35 سنة)، إنما أيضاً الأحداث المستقبلية. هذه الأحداث التي ستدور بعد عودة ظهور إسرائيل الثالثة التي حصلت سنة 1948 وتسبق سقوطها الثالث والأخير.

عودة ظهور الكيان الصهيوني الثالثة تتمتع بأهمية عالمية وروحية محددة: إنها تسبق بقليل عودة المسيح في الضمائر. بدأت هذه العودة مع إفشاء سر الرؤيا في 13 أيار سنة 1970. إن نهاية إسرائيل الثالثة والأخيرة قريبة جداً.

علامات الأزمنة

الفصلان 13 لمرقس و21 للوقا يتكلمان عن هذه النبوءات لنهاية الأزمنة. العلامات الرئيسية لهذه النبوءات هي:

إضطهاد الرسل

قبل سقوط إسرائيل الثاني، تعرض الرسل للاضطهاد كما تنبأ يسوع (لوقا 21، 12). كذلك اليوم، تضطهد إسرائيل أعداءها الذين يقاومونها عن حق. هذه هي بداية نهاية دولة إسرائيل.

أورشليم محاصرة من الوثنيين والمسحاء الدجالين

الوثنيون في أورشليم هم علامة لانهيارها القريب. في الأمس، كان الوثنيون هم الرومان الذين حاصروا المدينة ، أحرقوها مع معبدها وشتتوا اليهود في العالم (لوقا 21، 23 – 24). اليوم، بالعكس، الوثنيون هم اليهود المزعومون الذين يحاصرون أورشليم: هؤلاء هم وثنيو العصر (بسبب رفضهم ليسوع). وجودهم الضخم في فلسطين وفي المدينة المقدسة يعني نهاية دولة إسرائيل الأخيرة والقريبة: “ويدوس الوثنيون (“اليهود وما هم بيهود” الذي يتكلم عنهم يوحنا في الرؤيا 2، 9 / 3، 9) أورشليم إلى أن يتم زمانهم” (لوقا 21، 24). إنها إذاً نهاية النفوذ الصهيوني المرئي والمخفي في العالم.

سيظهر مسحاء دجالون يقولون إن “الزمان (زمن المسيح الصهيوني) قريب جداً”. إنهم الأنبياء الكذابون (الصهاينة الحاليون) الذين يرون في دولة إسرائيل “آية” تدل على أن زمن مجيء المسيح الإسرائيلي قد حل، أنه على الباب، وأنه سيعلن عن نفسه أمام العالم كله. فقد قال يسوع: “سيجيء كثير من الناس منتحلين اسمي، فيقولون: أنا هو المسيح! ويخدعون كثيراً من الناس (متى 24، 5)… فإذا قال لكم أحد، ها هو المسيح هنا، أو ها هو هناك! فلا تصدقوه” (متى 24، 23 – 24). لقد سمعنا الإسرائيليين يقولون إن الزمن المسيحي قد حل أخيراً، وإن ارييل شارون هو المسيح، بينما أخرون قالوا إن مناحيم بغين هو المسيح، أو أيضاً الحاخام ميير كاهانا هو المسيح، ملك إسرائيل. نحن نعرف أن يسوع هو مسيح الله الأوحد وأن الزمن المسيحي قد بدأ به قبل 2000 سنة.

توتر دولي وتهديد نووي

“ويسقط الناس من الخوف ومن انتظار ما سيحل بالعالم… ويصيب الأمم في الأرض قلق شديد ورعب (حروب نووية : لوقا 21، 25 – 26)… ستقوم أمّة على أمّة…(متى 24، 7)… فيرى الناس ابن الإنسان (يسوع) آتياً…(لوقا 21، 27)”. لهذا نقول إن هذه الأحداث هي من “علامات الأزمنة”، لأنها تشير إلى زمن عودة يسوع.

إنتشار عالمي للإنجيل

“وتجيء النهاية (الثالثة والأخيرة لإسرائيل) بعدما تعلن بشارة ملكوت الله هذه (بشارة مجيء يسوع المسيح إلى العالم) في العالم كله شهادة لي عند الأمم كلها” (متى 24، 14). الإنجيل منتشر اليوم في كل أرجاء العالم، ومترجم لأكثر من 360 لغة و1500 لهجة. إن نهاية المسيح الدجال الإسرائيلي قريبة جداً وكذلك “السماء الجديدة والأرض الجديدة” التي بشّر بهما كتاب الرؤيا وبطرس (رؤيا 21، 1 / بطرس الثانية 3، 13).

رسل آخر الأزمنة

يقول يسوع: “في ذلك الحين… يرى الناس ابن الإنسان آتياً على سحاب… (بعد أن) يرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت إلى جهات الرياح الأربع ليجمعوا مختاريه…” (متى 24، 30 – 31).

هؤلاء “الملائكة” هم بشر يرسلهم الله في نهاية الأزمنة “ليوقظوا” الصالحين في العالم، ليذكروهم بنبوءات آخر الأزمنة، وليبرهنوا لهم أنها ستتحقق مع ظهور “علامات الأزمنة” (عودة إسرائيل، إضطهاد عالمي لأعدائها، توتر دولي، خوف من النووي، إنتشار عالمي للإنجيل).

“البوق العظيم الصوت” الذي يوقظ “العذارى العاقلات” في مثل العذارى (متى 25) هو رسالة الرؤيا، التي تكشف هوية المسيح الدجال، “وحش الرؤيا” (رؤيا 13) الذي نجح بتضليلهن وتنويمهن. كشف سر الرؤيا هو هذا “الصياح الذي يعلو عند نصف الليل” (متى 25، 6)، في وقت النوم العميق، ليوقظ النفوس الصالحة، المخدوعة بحيل “الوحش” الصهيوني الشيطانية، من غفلتها (متى 25، 1 – 7).

متى هو الوحيد الذي تكلم عن رسل آخر الأزمنة. فينقل إلينا بالفعل ما قاله يسوع عن نهاية الأزمنة: “في يوم الحصاد (الإختيار الأخير للمختارين في نهاية العالم)، أقول للحصادين (إنه يسوع بنفسه هو الذي سيرسل “الحصادين”، رسل آخر الأزمنة): إجمعوا الزؤان أولاً واحزموه حزماً ليحرق، وأما القمح فاجمعوه إلى مخزني” (متى 13، 30). ويقول أيضاً: “وكما يجمع الزارع الزؤان ويحرقه في النار، فكذلك يكون في نهاية العالم: يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته كل المفسدين (“الزؤان”) والأشرار ويرمونهم في أتون النار” (متى 13، 40 – 42). “وهكذا يكون في نهاية العالم: يجيئ الملائكة (رسل آخر الأزمنة) وينتقون الأشرار من بين الصالحين” (متى 13، 49 – 50). إقرأ الآن الفصل 13 من إنجيل متى.

توضيحات مفيدة حول متى 24

رجاسة الخراب التي حلت في المكان المقدس، في الأرض المقدسة (فلسطين)، تمثل إسرائيل، ذروة الرجاسة، المرفوضة من الله، هذه الدولة التي تقدم نفسها على أنها “شعب الله المختار” وإنجازه في الأرض المقدسة التوراتية.

هذا الكيان، الذي سبب الكثير من الدمار والرعب، يظهر “بثياب الحملان” ويتهم الآخرين بالإرهاب، في حين أنه ليس سوى “ذئب خاطف” نستطيع بكل سهولة “أن نتعرف إليه من خلال أعماله” الإجرامية على الرغم من تنكره بثياب الحمل البريء (متى 7، 15 – 16). الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في فلسطين، بعلم ومرأى من العالم بأكمله، تجعل من إسرائيل “رجاسة الخراب” – قمة الرعب – في الأرض المقدسة، التي تنبأ بها النبي دانيال (دانيال 9، 27 / 11، 31 / 12، 11) وذكّر بها يسوع (متى 24، 15).

“الويل للحبالى…” لأن هربهن سيكون أكثر صعوبة من غيرهن نظراً لحالة حبلهن. يسوع لا يهدد النساء الحبالى، بل يتعاطف معهن. لذلك يجب أن تترجم: “سيئات الحظ هن الحبالى والمرضعات في تلك الأيام”. لأن تلك الأيام ستكون صعبة خاصة بالنسبة لهن (متى 24، 19).

“صلوا لئلا يكون هربكم في السبت”: يسخر يسوع من اليهود، لأنه في يوم السبت، لا يحق لهم المشي أكثر من كيلومتر واحد… بينما سيكون عليهم أن يقطعوا مسافات طويلة ليتمكنوا من الهرب من أعدائهم… (متى 24، 20).

يمكنك الآن أن تباشر بقراءة منظمة للأناجيل المتوافقة دون أن تواجه أية صعوبات تذكر. سيكون بإمكانك بعدئذ الإنتقال إلى كتاب أعمال الرسل الذي ستقرأه بعد أن تكون قد راجعت شروحاتي.

أعمال الرسل

إنه الكتاب الثاني الذي كتبه لوقا وأرسله إلى “ثاوفيلس” ليطلعه على “جميع ما عمل يسوع وعلّم من بدء رسالته إلى اليوم الذي ارتفع فيه إلى السماء” (أعمال 1، 1 – 2). يمكن اعتباره تكملة لإنجيل لوقا. يخبرنا فيه ماذا فعل الرسل بعد يسوع، حتى حوالي سنة 62 م، قبيل استشهاد بطرس وبولس سنة 64 م في رومة.

لوقا هو مؤرخ الرسل، يعلمنا أنه كتب كرفيق لبولس في سفره. فبعد أن تكلم عن بولس بصيغة الغائب: “وصل إلى دربة ولسترة… إراد أن يأخذ تيموثاوس معه… ومروا بنواحي فريجية…”. يتكلم لوقا بصيغة المتكلم في الجمع ضاماً نفسه بالتالي إلى فريق بولس: “طلبنا السفر في الحال… متيقنين أن الله دعانا إلى التبشير…” (أعمال 16، 1 – 10). لقد انضم لوقا إلى بولس في ترواس التي هي حالياً في تركيا (راجع الخريطة في الإنجيل).

بعد أن أطلع ثاوفيلس على مجيء المسيح في “كتابه الأول”، أي إنجيله، كتب لوقا في كتابه الثاني (أعمال الرسل) إلى ثيوفيل يخبره عن انتشار البشارة “في أورشليم واليهودية كلها والسامرة، حتى أقاصي الأرض” (أعمال 1، 8)، أي حتى رومة. يعلمه عن مقاومة اليهود المتطرفين للبشارة العالمية، بشارة يسوع اللاعرقية. ذهبت هذه المقاومة إلى حد تعرض العديد من الرسل والتلاميذ إلى الاضطهاد والقتل على أيدي هؤلاء اليهود. ستقرأ قصة اهتداء الكثير من اليهود والوثنيين واتحادهم بشخص يسوع.

سأشير إلى النقاط الرئيسية في هذا الكتاب، إلى ما يجب فهمه لاستيعاب الجوهر والروح الذي يريد لوقا أن يوصله إلى قارئه. بعد ذلك إقرأ هذا الكتاب بانتباه. فهو مهم جداً بالنسبة لنا اليوم، لأنه يتمتع بحالية كبيرة لنا اليوم بموازاة عودة ظهور إسرائيل. إن مقاومة الإسرائيليين المعاصرين المستمرة ليسوع واضطادهم الخبيث والواقعي لتلاميذه، تجعل رسالة كتاب أعمال الرسل معاصرة ومؤثرة.

الرسل لم يكونوا قد فهموا بعد (أعمال 1، 6)

عند صعود يسوع إلى السماء، لم يكون الرسل قد فهموا بعد البعد الروحي لملكوت الله، فسألوا يسوع: “أفي هذا الزمن تعيد الملك لإسرائيل؟”. بعد ثلاث سنوات من التأهيل و “غسل الدماغ”، بعد صلب وقيامة المسيح ومكوثه العجائبي بينهم 40 يوماً، كان الرسل لا يزالون في حالة جمود. تطلّب الأمر تدخلاً من الروح القدس، ووقتاً، ليفهموا الطبيعة الحقيقية لملكوت الله و “تجديده” الحقيقي (أعمال 3، 21).

العنصرة

الله يهب روحه و “عقليته” إلى الرسل 50 يوماً بعد القيامة (الفصح). كان ذلك يتوافق مع عيد “الحصاد” اليهودي، الذي يرمز إلى الحصاد الروحي، إلى إنتقاء المختارين بنعمة من الروح القدس الممنوح لهم وحدهم (يوحنا 4، 34 – 38 / لوقا 10، 2 / متى 13، 30 / رؤيا 14، 15 – 16). الكفار لا يحظون بهذا الروح الذي يشفي ويهب الحياة الأبدية وسعادة النفس.

جميع الذين لا يتكلمون العبرية فهموا ما كان الرسل يقولون، وليس العبرانيون وحدهم. إنه شكل من أشكال التجديد بعد بلبلة الألسن في بابل حيث لم يعد الناس يفهمون لغة بعضهم البعض (تكوين 11، 1 – 9).

المعارضة اليهودية القوية لرسالة يسوع

تجول هذه المعارضة صفحات كتاب أعمال الرسل، فقد قيل لبطرس: “تحالف في هذه المدينة (أورشليم) هيرودس، وبنطيوس بيلاطس وبنو إسرائيل (اليهود من كل مكان) والغرباء ضد فتاك القدوس يسوع الذي جعلته مسيحاً” (أعمال 4، 27). “ضد يسوع” تعني “المسيح الدجال”: هذان الاثنان اللذان يتكلم عنهما يوحنا مشيراً إلى المسيح الدجال (يوحنا الأولى 2، 22 / 4، 1 – 6 / يوحنا الثانية 7). في نهاية هذه الأزمنة، يتشكل نفس التحالف ضد المسيح من قبل إسرائيليي العالم، الرافضين يسوع، الذين حشدوا الأمم التي تدّعي المسيحية (مراجعة نصوص “المسيح الدجال وعودة يسوع” و “المسيحيون وإسرائيل”). المعارضة اليهودية أدّت إلى اضطهاد واستشهاد رسل وتلاميذ ليسوع. وكان استفانوس أول الشهداء (أعمال 7 و 12، 1 – 2).

إهتداء بولس إلى المسيح

يشدد لوقا على اهتداء بولس إلى المسيح. “كان بولس موافقاً على قتل استفانوس” (أعمال 8، 1) و “كان ينفس صدره تهديداً وتقتيلاً لتلاميذ الرب” (أعمال 9، 1). يكرر لوقا ثلاث مرات قصة اهتداء بولس (أعمال 9، 1 – 19 / 22، 5 – 16 / 26، 10 – 18)، بعد إشارته إلى أن هذا الإنقلاب المذهل لبولس حصل بعد أنه “كان يسعى إلى خراب الكنيسة، ويذهب من بيت إلى بيت ويخرج منه الرجال والنساء ويلقيهم في السجن” (أعمال 8، 3). لكن بولس كان يتصرف بنية طيبة، مقتنعاً أنه يخدم قضية الله، فقد كان مدفوعا بحبه لله، لا ببغضه ليسوع كباقي مضطهدي التلاميذ. لهذا السبب استحق أن ينوره المسيح بنفسه، بشكل مباشر، وليس عن طريق إنسان، لأن الله هو وحده كان قادراً على إقناعه بخطأه (غلاطية 1، 11 – 17 / ثيموتاوس الأولى 1، 12 – 16).

إنتقال البشارة إلى الوثنيين (أعمال 10، 1 – 11 و 10، 18)

لقد تطلب الأمر تدخلاً إلهياً، في الوقت نفسه، لدى الوثنيين (أعمال 10، 1 – 8) ولدى بطرس (أعمال 10، 9 – 24) لتنتقل رسالة الكتاب المقدس – معرفة الله الوحيد – المحفوظة بطريقة محكمة من قبل طبقة رجال الدين اليهود، إلى الوثنيين (غير اليهود)، ومن ثم إلى العالم.

اليهود الأوائل تلاميذ يسوع هم أنفسهم مندهشون من أن هذه المعرفة قد طالت غير اليهود: “أنعم الله، إذاً، على غير اليهود أيضاً بالتوبة سبيلاً إلى الحياة” (أعمال 11، 18). لأن اليهود كانوا يعتقدون – وما زالوا حتى اليوم – بأن غير اليهود، لا يملكون روحاً مثلهم، يعيشون فقط لهذه الأرض وليس لهم وصول إلى الحياة الأبدية والقيامة، ومصيرهم مشابه لمصير الحيوانات التي لا تملك روحاً أبدية.

هذا الإحتقار للوثنيين – الناجم من تعصب رجال الدين العبرانيين – صعّب مهمة الرسل، خاصة في المجتمع اليهودي. فكان على البشارة أن تمر عبر عائق سميك من التطرف اليهودي، هذا السد النفسي المنيع، الذي أقامه رجال الدين الإسرائيليون والذي وحده الله يستطيع تحطيمه؛ لقد فعل ذلك من خلال تدخله، في الوقت نفسه، لدى وثني، الضابط كورنيليوس، ولدى رسول، بطرس. لكن ذلك لم يمر من دون انذهال اليهود الصالحين ومن دون مقاومة المتعصبين من نفس الطائفة (أعمال 22، 21 – 22). لولا هذا التدخل الإلهي المباشر، لما كانت البشارة انتقلت إلى الوثنيين أبداً.

هذه المقاومة اليهودية الوحشية لبشارة رسل يسوع الإلهية قد تجلت بأشكال عديدة:

  1. إضطهاد الرسل والمؤمنين كما أشرنا سابقاً. علينا أن لا نتعجب لأن الأنبياء هم أيضاً اضطهدوا في إسرائيل.
  2. التسلل إلى صفوف المسيحيين لإعادة تلاميذ يسوع إلى ممارسة شريعة موسى (أعمال 15، 1 – 5 / 20، 28 – 30). هذا الأسلوب الماكر نجح لدى بعض الرسل الذين انتهى بهم الأمر إلى التشجيع على ممارسة شعائر موسى الغير مفيدة للخلاص، كما يقول بولس (غلاطية 3، 11). فخضعوا بذلك إلى ضغوط “الدخلاء الكذابين الذين دسّوا أنفسهم ليتجسسوا” على المجتمع المسيحي منذ بداياته (غلاطية 2، 4). هكذا، نرى أن الرسول يعقوب، هو نفسه الذي لم يكن أقل من رئيس الطائفة المسيحية في أورشليم، طلب من بولس أن يتبع شعائر موسى كما كان يفعل “آلاف اليهود الذين آمنوا (بيسوع) وكلهم متعصبون لشريعة موسى” (أعمال 21، 17 – 26). كان على بولس أن يمتثل إلى مطالب يعقوب، لكن ذلك لم يمنع اليهود من مطاردته، “محاولين قتله” (أعمال 21، 31).
  3. التسلل اليهودي إلى المجتمع المسيحي أدانه بولس (غلاطية 1، 7 / 2، 4 / تيطس 1، 10 – 14 / كورنثوس الثانية 11، 13 – 15 / كولوسي 4، 11)، بطرس (بطرس الثانية 2، 1) ويهوذا (يهوذا 1، 4 و 12، للمقارنة مع كورنثوس الأولى 11، 17 – 33).
  4. تحريض اليهود للوثنيين ضد الرسل (أعمال 14، 2 / 17، 5 – 9).
  5. إتهم بولس بأنه “مفسد يثير الفتن… وزعيم على شيعة النصارى” (أعمال 24، 5) لإعطاء الإنطباع للرومان أن الأمر يتعلق بحزب سياسي يعارض القيصر ليقيم ملكاً آخر، يسوع، مكان الإمبراطور (أعمال 24، 14 / 17، 7 / 25، 8). إنها نفس الحيلة التي استخدمها اليهود ضد يسوع (يوحنا 19، 15)، ونفس السلاح المستعمل في أيامنا من قبل بعض المسيحيين ضد رسل نهاية الأزمنة الذين مهمتهم فضح هوية المسيح الدجال، إسرائيل. إنهم متهمون “بممارسة السياسة”، في حين أنهم من يفضح تسييس الروحانيات من قبل الصهاينة وحلفائهم الذين يزعمون أنهم مسيحيون.

“الإستعانة بالكتب المقدسة” (أعمال 17، 2 – 3)

“مستعينا بالكتب المقدسة، كان بولس يشرح ويبيّن كيف كان يجب على المسيح أن يتألم ويقوم من بين الأموات” (أعمال 17، 2 – 3)، “وأخذ المؤمنون يفحصون الكتب المقدسة كل يوم ليعرفوا صحة تعاليم بولس” (أعمال 17، 11). يجب على كل مسيحي حقيقي أن يتمكن من “أن يبين من خلال الكتب المقدسة أن يسوع هو المسيح” (أعمال 18، 28) وأن إسرائيل (التي تنكر أن يسوع هو المسيح) هي المسيح الدجال الذي أعلن عنه يوحنا (يوحنا الأولى 2، 22).

فيوصينا بطرس قائلاً: “كونوا في كل حين مستعدين للرد على كل من يطلب منكم دليلاً على الرجاء الذي فيكم” (بطرس الأولى 3، 15).

لا نستطيع أن ندافع عن إيماننا إن كنا نجهل الكتب المقدسة. فمن خلال المعرفة الكتابية (التوراة والإنجيل) نستطيع أن نكون رسل يسوع، المسيح الحقيقي والوحيد.

هدف دراسة الكتاب المقدس هذه هو منح هذه المعرفة للمدعوين لأن يكونوا تلاميذ يسوع الذين يريدون الإستجابة لهذا النداء الإلهي.

cb_voyage-paul-1_ar
الرحلة التبشيرية الأولى لبولس (46 – 48 م)
cb_voyage-paul-2_ar
الرحلة التبشيرية الثانية لبولس (49 – 52 م)
cb_voyage-paul-3_ar
الرحلة التبشيرية الثالثة لبولس (53 – 57 م)
cb_voyage-paul-4-rome_ar
رحلة بولس إلى رومة (59 – 62 م)
الصفحات: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14
Copyright © 2024 Pierre2.net, Pierre2.org, All rights reserved.