الدرس الحادي عشر – الكتب النبوية الصغيرة الاثني عشر
هوشع
أصله من الشمال. تنبأ على اليهود “في أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا، ملوك يهوذا (الجنوب)، وفي أيام يربعام بن يوآش ملك إسرائيل (الشمال)” (هوشع 1، 1). كان إذاً معاصراً لإشعيا (الذي تنبأ على الملك آحاز). هوشع كان أيضاً معاصراً لعاموس. من المحتمل أنه رأى سقوط السامرة على يد الأشوريين (721 ق.م).
طلب الله منه أن يكون علامة لليهود بزواجه من “امرأة زنى” (مثل كل الشعب اليهودي) وبإنجابه “أولاد زنى لأن أهل الأرض كلهم يزنون في الخفية” (هوشع 1، 2). أعلن الله بلسانه أنه “سيضع حداً لمملكة إسرائيل. وفي ذلك اليوم يكسر قوس بني إسرائيل في وادي يزرعيل” (هوشع 1، 2 – 5). هذا الوادي هو وادي مجدو، حيث حصلت هزيمة الملك يوشيا المفجعة بعد قرن ونصف (الملوك الثاني 23، 29 – 30). يستعيدها كتاب الرؤيا كرمز للهزيمة النهائية لإسرائيل العصر (رؤيا 16، 16).
يعلن هوشع، كما سيفعل إرميا فيما بعد (إرميا 3، 18)، عن إتحاد “بيت يهوذا وبني اسرائيل واختيارهم رئيساً واحداً… فيكون اليوم الذي يزرعهم في الله يوماً عظيماً” (هوشع 2، 2). هذا الرئيس الوحيد هو المسيح الذي سيوحّد في شخصه كل البشر بعد تدمير الجيش الإسرائيلي الذي يشكل عائقاً لمخطط الله. لهذا سيكون “عظيماً يوم يزرعيل” لأنه سيرى زوال هذا الجيش: “أنا أهلككم يا بني إسرائيل” (هوشع 13، 9). هوشع هو ضد القومية الإسرائيلية وملكيتها (هوشع 8، 4 و 13، 9 – 11)؛ إنه يكشف عن الخلاص الروحي لا الحربي، خلاص لا يراد لا “بالقوس ولا بالسيف ولا بالخيل ولا بالفرسان ولا بأدوات الحرب كلها” (هوشع 1، 7). راجع أيضاً هوشع 10، 13 – 15 الذي يتكلم عن خراب إسرائيل العسكري “التي اتكلت على إدراكها وعلى كثرة جبابرتها” بدلاً من اتكالها على الله. لقد تجرأ هوشع إذاً، كما فعل صموئيل قبله، على إدانة الملكية الإسرائيلية، وبالتالي القومية اليهودية.
فوق كل ذلك ثار هوشع على الكهنة والأنبياء المزعومين الذين يتركون الشعب في الجهل (هوشع 4، 4 – 6). عندما تقرأ هذا النبي، كن متعاطفاً مع ألمه، فهو يتوجه إلى اليهود بوجع داخلي. يفضح زناهم الروحي متنبئاً بسبي الشمال (هوشع 8، 6 – 13). اضطهده الإسرائيليون: “النبي أحمق ورجل الروح مجنون… ينصبون له فخاً على جميع طرقه، ويشتمونه في بيت إلهه” (هوشع 9، 7 – 8).
يوئيل
عندما تقرأ يوئيل بانتباه ستكتشف أنه يتوجه إلى مجتمعين مختلفين يبعد أحدهما عن الآخر قروناً عديدة:
- إلى يهود يهوذا
- فيما بعد، إلى جميع الأمم
كلاهما سيعاقبا على خيانتهما. بعد العقاب سيكون هناك تجديد.
هذا هو الموضوع العام ليوئيل. إليك التفاصيل:
عقاب يهوذا
يوئيل يوجه الذم الإلهي إلى أهل يهوذا: “أنفخوا في البوق في صهيون (أورشليم). إهتفوا في جبلي المقدس!” (يوئيل 2، 1). “صعدت أمة على أرضي. هي قوية ولا عدد لها: .. دمرت كرمي وقصفت تيني” (يوئيل 1، 6 – 7). “الكرم” و “التين” هما من رموز إسرائيل. عندما لعن يسوع التينة، لمّح إلى دمار إسرائيل (متى 21، 18 – 21).
يوئيل هو نبي ما بعد السبي. العقاب المعلن هو إذاً الغزو الروماني ودمار الهيكل على يد تيطس (70 م). الكهنة هم مدعوون إلى التوبة قبل إبطال العبادة في الهيكل: “إتزروا بالمسوح (رمز التوبة) واندبوا أيها الكهنة… بيت إلهنا (الهيكل) محروم من التقدمة (التي يقربها المؤمنون)… (يوئيل 1، 13 – 14)… يقول الرب: توبوا إلي بكل قلوبكم… مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم. فتوبوا إلى الرب. الرب حنون رحوم… لعله يرجع (عن قراره بتدميركم) ويندم ويبقي وراءه بركة (ولن يعاقبكم أبداً لأنكم ندمتم)” (يوئيل 2، 12 – 14).
النكبة التي تنبأ بها يوئيل ستأتي من “الشمال” وستكون مماثلة، بالخراب الذي ستوقعه، إلى مختلف أنواع الجراد: “فضلة الزحاف أكلها الجراد، وفضلة الجراد أكلها الجندب…” (يوئيل 1، 4). آفة الجراد هذه ذكرها عاموس أيضاً (عاموس 4، 9) وملاخي (ملاخي 3، 11). ويستعيدها كتاب الرؤيا (رؤيا 9، 2 – 11).
هذا العقاب هو “يوم الرب” (يوئيل 1، 15 / 2، 1 / 2، 11)، عبارة نبوية قد أصبحت تقليدية (إشعيا 13، 6 / حزقيال 30، 2-3 / عاموس 5، 18). بعض اليهود يعتقدون أن هذا اليوم سيكون لصالحهم؛ لكن جميع الأنبياء دعوهم أن لا يتوهموا”: “يوم الرب قريب يأتي كالخراب من عند القدير (يوئيل 1، 15)… إرتعدوا يا جميع سكان الأرض. يوم الرب… يوم ظلمة وغروب” (يوئيل 2، 1 – 2). “ويل للمتمنين يوم الرب… هو ظلام لا نور” (عاموس 5، 18).
التجديد
بعد الخراب، يبشر الله بالتجديد: “وأعوض لكم عن السنين التي أكل قوتها الجراد والجندب… فتأكلون وتشبعون وتهللون لاسم الرب إلهكم” (يوئيل 2، 25). هذا الإصلاح سيكون روحياً بالمسيح، من خلال جسده ودمه. لقد تكلم يسوع عن ذلك لرسله: “الحق أقول لكم: متى جلس ابن الإنسان على عرش مجده عند تجديد كل شيء، تجلسون أنتم الذين تبعوني…” (متى 19، 28). الذين تبقى ذهنيتهم مادية وسياسية لن يذوقوا هذا الطعام الإلهي و “عصير الكرمة سينقطع عن أفواههم” (يوئيل 1، 5): “عصير الكرمة” هو الذي يقدمه يسوع لتجديد الروح (يوحنا 6، 53 – 57 / لوقا 22، 14 – 20 / متى 26، 27 – 29).
هذا التجديد الأول يحدث بنعمة من روح الله: “في الأيام الأخيرة (نكبة الجراد) أفيض من روحي على جميع البشر (إذاً على جميع الناس- بيسوع – وليس على اليهود وحدهم). فهم اليهود هذا التجديد سياسياً، “تجديداً” لدولة إسرائيل. لكن الرسل فهموا أن المقصود هو بعد روحي داخلي، في النفس البشرية. لهذا السبب يرجع بطرس إلى هذه النبوءة عن فيض الروح الإلهي في أعمال 2، 17 – 21. كذلك يحدد في أعمال 3، 20 – 21 أن “تجديد كل شيء مثلما أعلن الله من قديم الزمان بلسان أنبيائه الأطهار” يتحقق بيسوع. يتم هذا التجديد على مرحلتين: المرحلة الأولى تمّت بمجيء يسوع منذ 2000 سنة، والثانية تتم الآن في زمننا الرؤيوي من خلال عودة يسوع المسيح فينا. أتكلم عن هذه المرحلة الأخيرة فيما بعد وأيضاً في نص “مفتاح سفر الرؤيا”.
عقاب العالم
عقاب إسرائيل المؤلم هو مَثَلٌ ودرس لجميع أمم العالم التي لم تعد تبالي برسالة يسوع. “فها أنا في تلك الأيام وفي ذلك الزمان، حين أعيد سكان يهوذا وأورشليم من السبي، أحشد جميع الأمم وأنزلهم إلى وادي يوشافاط وأحاكمهم هناك من أجل شعبي وميراثي إسرائيل (يوئيل 3، 1). اغيروا أيها الأمم واصعدوا إلى وادي يوشافاط، أنا هناك جالس لأدين الأمم المجاورة… أعملوا المنجل فالحصيد نضج تعالوا دوسوا فتمتلىء المعصرة وتفيض الخوابي… إلى وادي حروص يا جماهير يا جماهير، فيوم الرب اقترب في وادي حروص…” (يوئيل 3، 12 – 14).
“وادي يوشافاط” هو مكان رمزي غير موجود جغرافياًَ ويعني: “الله يدين”، إنه أيضاً “وادي حروص” أو “السحق” أو “القرار” الإلهي بضرب أعداء الله ومسيحه، يسوع الناصري.
هذه الدينونة ستحدث قبيل نهاية الأزمنة حيث أن “الحصيد قد نضج” و “المعصرة قد امتلأت”. كتاب الرؤيا ليوحنا يردد نفس عبارات يوئيل (رؤيا 14، 14 – 19) ويفسر أن يسوع، “كلمة الله… يدوس في معصرة خمر نقمة غضب الله القدير” (رؤيا 19، 13 – 15).
هكذا إذاً، “إسرائيل” أو “شعب الله” الذي يتكلم عنه يوئيل (يوئيل 4، 1) يتألف من تلاميذ يسوع. هذا هو شعب الله الحقيقي . في أيامنا الرؤيوية ستدان إذاً جميع الأمم التي تدعم إسرائيل، الدولة التي تأسست على الظلم وإنكار يسوع. منكرو المسيح تجمّعوا من كل الأمم في فلسطين “ليُسحقوا” كما تُسحق الكرمة في المعصرة. هذا هو “وادي يوشافاط” حيث الله يدين ويسحق تحت أقدام مسيحه، المسيح الدجال وجميع الدول التي تدعمه.
مع مجيء يسوع الأول، حصل أول فيض للروح الإلهي. هذا الفيض لم يحدث من دون أحداث دموية: دمار أورشليم وخراب الهيكل سنة 70 م. قبل عودة المسيح، سيحصل فيض ثان (وهو يحصل حالياً)، ودائماً من خلال أحداث دموية – حروب وثورات – تهيئ للحرب العالمية الثالثة: “وعلى عبيدي أيضاً، نساءً ورجالاً، أفيض روحي في تلك الأيام. وأصنع عجائب في السماء والأرض، دماً وناراً وأعمدة دخان”، يقول الرب (يوئيل 3، 3). تشير هذه العلامات إلى الحروب: أعمدة الدخان هي من مميزات القنابل الحديثة… خصوصاً القنابل النووية.
يذكرنا يسوع بكل هذه العلامات (متى 24 / لوقا 21)، “مصائب تلك الأيام و “الشمس التي تظلم والقمر الذي لا يضيء” (متى 24، 29)، كما يقول يوئيل (يوئيل 3، 4) وكتاب الرؤيا (رؤيا 6، 12). لا يجب أن نفهم ذلك حرفياً وأن نتوقع زوال الشمس والقمر. إنها عبارات رمزية ونبوية، تشير إلى الأزمنة الصعبة، زوال الإيمان والأخلاقية، كسوف الشمس الروحي.
“الإصلاح الشامل”
بعد هذه النكبات، كل شيء سيتجدد: “وفي ذلك اليوم تقطر الجبال خمراً جديداً… وجميع سواقي يهوذا تسيل مياها. ويخرج معين (روحي) من بيت الرب” (يوئيل 4، 18 – 19).
“الخمر الجديد” أو “عصير الكرمة” (كما يترجمه البعض) يرمزان إلى الأزمنة الجديدة التي تلي العقاب الشامل. إنهما “السماء الجديدة والأرض الجديدة” بعد هزيمة أعداء يسوع (رؤيا 21، 1). مصر ترمز إلى الكفار الذين سيبقون في الحزن.
هذا الزمن هو زمن تجديد جماعي روحي، أشدد على روحي وجماعي. هو يحدث داخل روح المؤمنين، كل المؤمنين الحقيقيين. المسيح بذاته سيظهر لهم كما وعد (يوحنا 14، 21) وكما أعلن بطرس: “فتجيء أيام الفرج من عند الرب، حين يرسل إليكم المسيح الذي سبق أن عينه لكم، أي يسوع الذي يجب أن يبقى في السماء إلى أن يحين زمن تجديد كل شيء، مثلما أعلن الله من قديم الزمان بلسان أنبيائه الأطهار” (أعمال 3، 20 – 21). لأن، كما يكشف لنا بولس، “المسيح سيظهر ثانية، خارج الخطيئة (بالروح، في النفس)، لخلاص الذين ينتظرونه” (العبرانيين 9، 28).
الذين فهموا أن الإصلاح الشامل هو قيامة وطنية إسرائيلية سيهلكون في “وادي يوشافاط”، ويسحقوا في “معصرة غضب الرب”.
عاموس
إنه الأقدم من بين الأنبياء الكتبة؛ تمتد رسالته من 783 حتى 743 ق م. هو إذاً معاصر لهوشع، إشعيا وميخا، لكنه يسبقهم.
بشّر عاموس في الشمال، في معبد بيت إيل، حيث أرسله الله ليتنبأ على إسرائيل وملكها، يربعام الثاني (عاموس 7، 7 – 14). لكنه من الجنوب، من تقوع في يهوذا (عاموس 1، 1)، ما شكّل سبباً إضافياً ليكون مكروهاً من الإسرائيليين.
عاموس هو راع بسيط، فقير وغير مثقف. لم يكن عضواً في مدرسة نبوية معترف بها، ولم يكن يملك شهادة ليتنبأ مثل بعض الذين كانوا يزعمون النبوءة في زمنه. يعترف بنفسه أنه ما كان “لا نبي ولا ابن نبي” (عاموس 7، 14)، وإنه لم يكن عضواً في أي أخوية أو تجمع نبوي (مثل بعض الحركات التي تستهوي الجماهير في أيامنا). لا يتاثر الرب بشهادات دينية في اختياره للبشر. بالإضافة إلى أن الربّ أخذ عاموس “من وراء الغنم” (عاموس 7، 15) كما اختار بطرس، اندراوس، يعقوب ويوحنا، بعد ثمانية قرون، وانتزعهم عن شباك صيدهم ليصنع منهم رسلاً لمسيحه. احتقر عاموس الكتبة والفريسيين – مع أنهم كانوا أكثر ثقافة وعلماً منه في الديانة – مفضلاً أناساً قلوبهم لينة وطيعة للروح القدس.
طلب الرب من عاموس أن يتنبأ ضد إسرائيل: “سأجعل الشاقول في وسط شعبي إسرائيل ولا أعود أغض النظر عن اعوجاجهم من بعد” (عاموس 7، 7 – 9). “الشاقول” هو أداة قياس: الرب “يقيس” استقامة الروح، كما في رؤيا 11، 1، ليكشف القلوب ويدين الأشرار. إنها نبوءة عن الغزو الأشوري (عاموس 3، 11) وعن السبي (عاموس 5، 27).
عاموس هو أول من تكلم عن “يوم الرب الذي سيكون ظلاماً لا نوراً للإسرائيليين” (عاموس 5، 18) وعن “القلة الباقية” التي تنجو بعد الدينونة (عاموس 5، 15).
إنه نبي العدالة الإجتماعية، لأنه ثار على الأثرياء وعلى غناهم الفاحش (عاموس 2، 6 – 7 / 4، 1 – 3 / 5، 7 – 12).
امتدت نبوءته على اليهودية أيضاً، فتنبأ بخرابها: “هذا ما قال الرب: …أرسل ناراً على يهوذا، فتأكل أورشليم ولا تبقي منها شيئا” (عاموس 2، 4 – 5).
فضح عاموس العبادة الظاهرية، معلناً أن الله يمقتها، وأنه يطالب بممارسة العدالة كعبادة: “أبغضت أعيادكم ورفضتها… محرقاتكم وتقدماتكم `لا أرضى بها،…بل ليجر العدل كالمياه، والصدق كنهر لا ينقطع” (عاموس 5، 21 – 24).
عوبديا
إنه الأقصر من بين الكتب النبوية. اسمه يعني “عبد الله”.
هذا الكتاب الصغير هو نبوءة ضد الأدوميين لأنهم غزو يهوذا: “من أجل جوركم يا بني عيسو على أخوتكم بيت يعقوب سيغمركم البؤس وتنقرضون إلى الأبد” (عوبديا 1، 9 – 10).
تنبأ عوبديا بالتجديد لأهل يهوذا: “ويرث أهل الجنوب جبل عيسو (أدوم)…” (عوبديا 1، 19 – 21). هذا التجديد هو وطني أيضاً مع طموحات توسعية للإستيلاء على أدوم.
يونان
القصة التي تحكى في هذا الكتاب هي قصة رمزية، غير تاريخية، حتى ولو نُسبت إلى النبي يونان المذكور في سفر الملوك الثاني 14، 25.
مغزى القصة: يقبل الرب توبة كل البشر، ولو كانوا من أهل نينوى (أشوريين)، أعداء اليهود. الله إذاً ليس حكراً ولا ملكاً لليهود فقط، بل للبشرية جمعاء.
أرسل يونان إلى أهل نينوى، تماماً مثل رسل يسوع الذين بشروا الوثنيين بالتوبة وبالمسيح، ومثل يسوع الذي كان عطوفاً مع الجنود الرومان. كل هذا هو سبب لغضب المتعصبين، من اليهود وغير اليهود. ماذا كان سيفكر، اليوم، بعض المسيحيين عن أحد أساقفتهم الذي يفضل المسلمين عليهم. والعكس بالعكس، ماذا يقول المسلمون عن أحد شيوخهم الذي يفضل مسيحيين عادلين على بعض المسلمين الكافرين؟
بقاء يونان في جوف الحوت لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال (يونان 1، 17) ترمز إلى بقاء المسيح في جوف الأرض لثلاثة أيام قبل قيامته. المزمور الذي قاله يونان بعد خروجه من جوف الحوت، ينطبق تماماً على المسيح في جوف الأرض بعد ضيق الصلب وقيامته بعد الموت: “نزلت إلى أسس الجبال، إلى أرض أبوابها انغلقت علي يا رب إلى الأبد” (يونان 2، 6).
لذلك تكلم يسوع عن “آية” يونان (متى 12، 40 – 41). هذه الآية كانت وستبقى غير مفهومة من قبل الكثيرين، وبخاصة من أغلبية اليهود الذين سيحكم عليهم أهل نينوى – ويدينوهم- لأنهم لم يؤمنوا بأن يسوع هو المسيح! بينما أهل نينوى آمنوا بيونان، الذي هو أقل أهمية من يسوع (متى 12، 41). هذه الدينونة تشكّل ضربة قاضية لكل المتعصبين.
ميخا
ميخا هو ريفي من جنوب يهوذا، من “مورشت” جنوبي حبرون. مارس رسالته النبوية “في أيام يوثام وآحاز وحزقيا، ملوك يهوذا” (ميخا 1، 1). قروي بسيط، على الصعيد الفكري كان يشبه عاموس، الراعي البسيط. كان معاصراً لإشعيا. ومثل عاموس، فضح الترف الجامح للذين “يشتهون حقولاً فيغتصبونها وبيوتاً فيستولون عليها” (ميخا 2، 2).
فضح ظلم الإسرائيليين وتنبأ بخراب السامرة ويهوذا: “سأجعل السامرة خرابا… ضربة السامرة لا تشفى، ارتدت فأصابت يهوذا، بلغت أبواب أورشليم. أبواب مدينة شعبي” (ميخا 1، 6 – 9). تنبأ بخراب أورشليم والهيكل (ميخا 3، 12) وكذلك بالسبي (ميخا 4، 10): “لذلك ستفلح صهيون بسبب أعمالكم كحقل، فتصير أورشليم خرائب وجبل بيت الرب وعراً” (ميخا 3، 12)… لتذهبي إلى بابل” (ميخا 4، 10).
يعزي ميخا اليهود بالمسيح الملك الذي “سيجمعهم كغنم الحظيرة… يكون هو الرب ملكهم، هم يعبرون وهو على رأسهم” (ميخا 2، 12 – 13). هذا الملك سيولد في بيت لحم: “لكن يا بيت لحم أفراتة، صغرى مدن يهوذا، منك يخرج لي سيد على بني إسرائيل يكون منذ القديم، منذ أيام الأزل” (ميخا 5، 1). هذه النبوءة تحققت بيسوع، الذي ولد في بيت لحم (متى 2، 6 / يوحنا 7، 42). إحفظ جيداً هذه النبوءة المهمة، خاصة لأنها تكشف الأصل الأزلي للمسيح (طابق مع أسمائه الإلهية: إشعيا 9، 5).
يعزي ميخا اليهود أيضا بالتجديد بعد الخراب. لكن هذا التجديد فهم أيضاً من المنطلق القومي: “يكون جبل بيت الرب في رأس كل الجبال… وتجري إليه الشعوب… وأنت يا جبل بنت صهيون، إليك يأتي الحكم ويعود الملك كما من قبل إلى مدينة أورشليم”(ميخا 4، 1 – 8). كذلك، لم ينظر إلى لمسيح إلا كملك قومي “تمتد عظمته إلى أقاصي الأرض ويقاوم الأشوريين إذا داسوا أرضنا”(ميخا 5، 2 – 5).
كان لميخا تأثير كبير. فبقي اليهود يتذكرون نبوءاته لعدة قرون من بعده، كما يكشف إرميا (إرميا 26، 18) بخصوص نبوءة ميخا عن خراب أورشليم والهيكل (ميخا 3، 12).
صفنيا، ناحوم، حبقوق
علينا دراسة هؤلاء الأنبياء الثلاثة مع بعضهم البعض لأنهم معاصرون. عاشوا نفس الفترة الصعبة التي سبقت سقوط نينوى (في سنة 612 ق.م)، وكان يحييهم نفس الأمل، أي رؤية تجديد إسرائيل القومي مع سقوط نينوى الذي طالما تمنوه. لكن، بعد هذا السقوط، كان اليأس التام بعد هزيمة مجدو القاسية وموت الملك يوشيا الذي كان يجسد آمال القوميين اليهود.
تاريخياً، صفنيا هو أقدم من ناحوم. سأقدمه إذاً قبل النبيين الآخرين، خلافاً لمحله في الكتاب المقدس.
صفنيا
تنبأ صفنيا في عهد الملك يوشيا، أي بين 640 و 609 ق.م (سنة موت يوشيا في مجدو). اعتلى يوشيا العرش وهو صغير جداً (كان ابن ثماني سنوات في سنة 640: الملوك الثاني 22، 1). لم يكن إذاً قد باشر باصلاحاته الدينية والكهنة كانوا فاسدين. ثار صفنيا على رؤساء الدين وأعلن عن خراب يهوذا. هذا الخراب هو “يوم الرب القريب”، “قريب وسريع جداً… يوم عقاب… وضيق” (صفنيا 1، 14 – 18).
تأثر يوشيا بصفنيا. شرع باصلاحاته ليجنب الأمة الأسوأ. لكن، كما تنبأت النبية خلدة في ذلك الوقت، أن غضب الله لن ينطفئ (الملوك الثاني 22، 14 – 20).
بعد هذا العقاب، ستبقى “بقية”، متواضعة وقليلة العدد، تعود إلى الله (صفنيا 3، 12). بهذه البقية سيتم “التجديد” الذي أعلن عنه الأنبياء. لكن صفنيا لا يزال يرى أن هذا التجديد هو وطني (صفنيا 3، 19 – 20).
لم يتنبأ صفنيا ضد يهوذا فقط، بل أيضاً ضد أشور وبسقوط نينوى: “يجعل الله نينوى مقفرة قاحلة” (صفنيا 2، 13 – 15). متنبئاً بنهاية أشور وخراب يهوذا، يعلن صفنيا بطريقة غير مباشرة مجيء الامبراطورية البابلية التي، في عصره، كانت تكبر وتزداد قوة.
ناحوم
تنبأ ناحوم بعد صفنيا ببضع سنوات. الخطر على نينوى يتوضح مع نمو القدرة البابلية. يثور ناحوم على نينوى قبيل سقوطها: “صعد المجتاحون (نبوبلنصر، والد نبوخذنصر)… عليك يا نينوى… تنفتح أبواب النهر (دجلة)، فيسقط القصر (قصر نينوى، لقد اجتاز البابليون النهر للوصول إلى نينوى)… نينوى كبركة جف ماؤها (ناحوم 2، 2 – 9)… خربت نينوى، فمن يرثي لها!” (ناحوم 3، 7).
كانت معنويات ناحوم مرتفعة بسبب إمكانية هزيمة الأشوريين، أعداء إسرائيل، فلم يكن يرى إلا خلاص يهوذا وتجديدها. كان أمل التجديد (الوطني) مسيطراً عليه: “ها… السلام! (ليهوذا، من خلال خراب نينوى)…” (ناحوم 2، 1). “الرب أعاد جاه يعقوب…” (ناحوم 2، 3). هذا الأمل كان قصير الأمد لأن هزيمة اليهود في مجدو في 609 التي تلت سقوط نينوى في 612 بوقت قصير. هكذا، أفسح الأمل بالخلاص المجال للفوضى. فيقول إرميا بعد بضع سنوات بهذا الصدد: “إنتظرنا السلامة عبثاً وأوان الشفاء فجاءنا الرعب (إرميا 8، 15)… ننتظر السلام لكن عبثاً ووقت الشفاء فإذا الرعب” (إرميا 14، 19).
مع ذلك، نبوءة التجديد ليست بلا جدوى إن فهمناها روحياً وفقاً للمقصود الإلهي: بيسوع.
حبقوق
يتنبأ بعد سقوط نينوى. الخطر على الإسرائيليين يأتي الآن من “الكلدانيين” (البابليين): “ها أنا أثير البابليين… لتمتلك ديار الآخرين” (حبقوق 1، 6).
يستعيد حبقوق بطريقة خفية تهديدات ميخا لأورشليم: “ويل لمن يبني مدينة بالدماء (أورشليم) ويؤسسها بالإثم” (حبقوق 2، 12 / ميخا 3، 10). إنه إعلان العقاب من خلال الغزو البابلي.
حجاي وزكريا
يجب دراسة هذين النبيين مع بعضهما البعض لأنهما عملا معاً لإعادة بناء الهيكل بعدما دمره نبوخذنصر (عزرا 5، 1).
حجاي
الفصلان الوحيدان في كتاب حجاي مخصصان لإعادة بناء الهيكل. يحث حجاي زربابل ويشوع على تشييد هذا المقدس: “كانت كلمة الرب على لسان حجاي النبي إلى زربابل حاكم يهوذا، وإلى يشوع الكاهن العظيم… إصعدوا إلى الجبل (جبل الهيكل)، وهيئوا خشباً (للبناء)، وابنوا بيتي (الهيكل)” (حجاي 1،1 – 8).
لم يتم إنجاز بناء الهيكل الثاني إلا حتى حولي سنة 515 ق.م. لم يكن بمثل فخامة الهيكل الأول وكان الشيوخ يبكون على الذكرى المحزنة للهيكل الأول الذي كان يمتلئ “مجداً” (عزرا 3، 12). حجاي يعزيهم ويعدهم أن مجد الهيكل الثاني سيكون أعظم من مجد الهيكل الأول: “من فيكم، أنتم الباقون، رأى بيتي هذا في مجده الأول؟ وكيف ترونه الآن؟ أما هو في عيونكم كلا شيء؟ تشددوا ولا تخافوا… سيكون مجد هذا البيت الأخير أعظم من مجده الأول، يقول الرب القدير” (حجاي 2، 3 – 9). لكن ذلك لم يحدث بما أن هذا الهيكل دمر على يد تيطس في سنة 70 م… هل حجاي هو نبي حقيقي؟!
حجاي وكل الطائفة فهموا هذا “المجد” مادياً، مؤمنين بجمع الثروات من جميع الغير يهود. فقد جعل حجاي الله يقول: “أزلزل جميع الأمم فتأتي كنوزها لتملأ هذا البيت مجداً، لي الفضة ولي الذهب، يقول الرب القدير” (حجاي 2، 7 – 8). من الصعب تصديق أن الرب طلب كل هذه الثروات المادية لصناديق دولة إسرائيل! إن ذلك لم يكن طبعاً مقصود الله الذي يصر دائماً على المجد الروحي للهيكل الروحي الموجود في نفوس المؤمنين، لا على الذهب والفضة. هذا المجد الروحي يتعدى إلى حد كبير المجد المادي الزهيد والمزيف لهيكل سليمان. عن هذا المجد تكلم يسوع قائلاً: “تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو… ولا سليمان (الذي اشتهر بذوقه للفخامة) في كل مجده لبس مثل واحدة منها” (متى 6، 28 – 29).
قبل الإجتياح، كان الأنبياء يتنبأون بالعقاب. في زمن السبي، كانوا يتكلمون عن العزاء، و، عن العودة إلى فلسطين، وكانوا يدعون إلى التجديد الوطني. من زمن حجاي وزكريا، بُني الرجاء الوطني على زربابل، المنحدر من سلالة الملك داود. كان زربابل هو الحاكم، وكانت الطائفة تأمل أن يعيد تأسيس الملك في إسرائيل. ساد الإعتقاد بأنه المسيح المنتظر، وحجاي، “بوحي من الله”، قال له: “في ذلك اليوم، يقول الرب القدير، آخذك يا زربابل… وأرسمك حاكماً. فإني اخترتك” (حجاي 2، 23). هذا الإختيار الإلهي لم يكن يعني أن زربابل هو المسيح، بل أن المسيح سيأتي من سلالته (متى 1، 12 – 13).
زكريا
حث زكريا الشعب على إعادة بناء الهيكل (زكريا 1، 16). كانت له ثماني رؤى، أهم اثنتين منها هما:
- “مسح” أورشليم: سبر القلوب لتجديد الطائفة بالمؤمنين الحقيقيين: زكريا 2، 5 – 9. (طابق مع رؤيا 11، 1 و 21، 15).
- “الزيتونتان” (اللتان “مسحهما” الله ليبنيا الهيكل: زكريا 4، 1 – 10. للمقارنة مع رؤيا 11، 4).
أعلن زكريا عن رؤيا مهمة عن المسيح “وديعاً راكباً على حمار”، وليس على مركبة حرب، الذي سيقضي على “مركبات الحرب والخيل وأقواس القتال” (زكريا 9، 9 – 10). إنه تحول في الذهنية اليهودية العدوانية. تتحقق هذه النبوءة مع يسوع، المسيح المتواضع بامتياز، الذي دخل أورشليم راكباً على حمار (متى 21، 1 – 5 و 11، 29).
ملاخي
يأخذ هذا الكتاب إسمه من كلمة “ملاخي” التي تعني “ملاكي”. يأتِ هذا الإسم من أن الكاتب يتنبأ بمجيء المسيح القريب ويدعوه “ملاك العهد” (ملاخي 3، 1). ملاخي (ملاكي) هو إذاً اسم مستعار والكاتب، المجهول الهوية، يكتب بعد العودة من السبي وإعادة بناء الهيكل، حوالي سنة 450 ق.م.
كما فعل أنبياء آخرون قبله، يفضح ملاخي كفر الكهنة وتفاهة عبادتهم، معلنا سقوط عهد الله مع لاوي، العشيرة التي ينبثق منها الكهنة: “إليكم هذه الوصية أيها الكهنة!… أرسل عليكم اللعنة وأجعل بركتكم لعنة… أمنع عنكم الزرع وأرمي وجوهكم بالزبل، زبل ذبائح أعيادكم، وأبعدكم عني… كان عهدي معه للحياة… أما أنتم فحدتم الآن عن الطريق… ونقضتم عهد لاوي” (ملاخي 2، 1 – 8. راجع العهد الجديد في إرميا 31، 31 – 32).
تذكر أن داود قد تنبأ بتأسيس كهنوت مختلف عن كهنوت لاوي، من خلال المسيح، “على رتبة ملكيصادق” (مزمور 110، 4). هذا الكهنوت أسسه يسوع، فهو الكهنوت الوحيد المقبول عند الله (عبرانيين 7، 11 – 19).
النقطة الجديدة لدى ملاخي هي الكشف عن بشير يمهد الطريق أمام مجيئ المسيح: “ها أنا أرسل رسولي (المبشر بمجيئي) فيهيئ الطريق أمامي، وسرعان ما يأتي إلى هيكله الرب الذي تطلبونه، وملاك العهد (المسيح) الذي ترتضون به” (ملاخي 3، 1).
هذا الرسول البشير للمسيح هو “إيليا”: ها أنا أرسل إليكم إيليا النبي قبل أن يجيء يوم الرب العظيم…” (ملاخي 3، 23). أوضح يسوع أن المقصود هو يوحنا المعمدان (متى 17، 10 – 13) الذي أتى، لا كتقمص لإيليا، بل بنفس “روح إيليا وقوته” (لوقا 1، 17) كما سبق أن شرحت.
هذه النبوءة عن الملاك (الملاخ) السابق للمسيح تخص ملاخي وحده. فلم يتكلم عنها أي نبي آخر. لهذا السبب هي النقطة الأبرز في هذا الكتاب والتي أعطته اسمه: ملاخي.
هنا تنتهي دراسة كتب العهد القديم، العهد المنقوض، كما اكتشفت، والذي يستوجب إصلاحاً. هذا الإصلاح تممه يسوع الذي افتتح أزمنة التجديد الروحي والشامل التي ما زلنا نعيشها. لأن الأحكام المادية للعهد القديم، كما يشير بولس، هي “أحكام تخص الجسد وتقتصر على المأكل والمشرب ومختلف أساليب الغسل، وكانت مفروضة إلى الوقت الذي يصلح الله فيه كل شيء” (عبرانيين 9، 10). سندرس الآن الكتب التي تقدم لنا هذا العهد الجديد المذهل والمحيي بيسوع، المسيح.